أحمد بان
كاتب مصري
في أي حركة أو تيار أو جماعة أو حزب ثمة مقولات تأسيسية، هي الأصدق تعبيراً عن أهداف ووسائل وفلسفة تلك المنظمة، وبالرغم من أنّه لا توجد مقولات تأسيسية عابرة للزمن، بالنظر إلى كونها مقولات بشرية، إلا أنّ تلك المقولات تكتسب قداسة كبيرة داخل التيارات الأيديولوجية؛ حيث يعد التمسك بها مؤشراً على قوة الولاء للفكرة أو التنظيم، كما أنّ البعض يعتقد أنّ استمرار تلك المقولات يعزز الوحدة الفكرية أو التجانس العقلي بين الأعضاء، دون الانتباه إلى أنّ كثيرين يعتقدون أنّ هذا الثبات في مقولات التأسيس قد يحدث لوناً من ألوان الجمود والتكلس في عقل الحركة، وهو ما أصاب جماعة الإخوان بالفعل بشكل واضح، وقد مر على تأسيسها تسعة عقود كاملة، لم تحقق فيها شيئاً من أهدافها التي نذرت نفسها وأعضاءها للتنظيم. وبعيداً عن تقويم أداء الجماعة بالنظر لما حققته من أهداف، يهمنا في هذه السطور رصد بعض المحطات التي تؤكد أنّ الجماعة لم تحترم مقولاتها التأسيسية ومناهجها في التغيير.
لطالما ردد الإخوان قصائد الحب للشعب المصري مستشهدين بكلام للبنا المؤسس، يقول فيه “وإنه لحبيب لتلك النفوس أن تذهب فداء لعزتكم وسعادتكم”، لكنهم بالمقابل لم يجلبوا للشعب سوى الشقاء والخراب وإفساد الحياة الاجتماعية حتى داخل البيت الواحد، لطالما رددوا أنّ جماعة الإخوان دعوة تجمع ولاتفرق تحب الإجماع وتكره الشذوذ، وأي مراقب لمسار الحركة وما أحدثته في الواقع، يصافح هذا الشذوذ الذي جسدته كطائفة دينية منعزلة عن المجتمع تمارس كل طقوس الاستعلاء عليه، راغبة في ممارسة وصاية عليه لم تكن يوماً مؤهلة لها، أثبت الإخوان بسلوكهم وخياراتهم أنّهم لا يسعون لتجنب الخلاف أو إشاعة حالة من حالات التوافق المجتمعي؛ بل كانوا في الغالب معول هدم في تلك الساحة، ولم يدعم خياراتهم أبداً منطق الوحدة أو التوافق لا سياسياً ولا اجتماعياً.
كان للإخوان موقف واضح من الحزبية ادعت فيه الجماعة أنّها حركة قيمية تريد التمكين للقيم في المجتمع، ولذا لن تنخرط في أي لون من ألوان المنافسة السياسية، كونها حركة دعوية قيمية لا تنحاز لتيار سياسي في الأمة على حساب آخر، ومن ثم بدت في المقولات التأسيسية حالة من النفور من الحزبية وتحذير منها وحرص على ألا تنخرط الجماعة في أي حالة حزبية أو تتمظهر بصورة منها، وهو ما خالفته عندما رصدت هذا التشوه السياسي الذي أصاب الحياة السياسية المصرية ووجدت أنّ الفرصة متاحة لأن تحصد وحدها كل الثمار، فتقدمت دون وجل لتؤسس حزباً لم يكن له من اسمه نصيب الحرية والعدالة؛ حيث لم تعرف الجماعة عبر تاريخها سوى حرية العبث بمصائر الأوطان، كما لم تتعرف على عدالة غابت داخل التنظيم ولم تخجل الجماعة من الدعوة لها خارج تخومه.
في الناحية الاقتصادية كما قدمتها أدبيات الجماعة كان هناك اتجاه واضح لخيار أقرب للاشتراكية والعدالة الاجتماعية وتعزيز دور واضح للدولة، مع ميل لتحديد الملكية الزراعية وهو ما سلكته ثورة يوليو في برنامجها، لكنه لم يرق لحسن الهضيبي، المرشد الثاني الذي عارض تحديد الملكية ونهج هو والجماعة من بعده توجهاً رأسمالياً واضحاً، لم تنخرط الجماعة في أنشطة إنتاجية تغطي مجالات الزراعة والصناعة أو البحث العلمي، رغم أنّ وصايا البنا في رسائله كانت تتحدث عن تشجيع الإرشاد الزراعي والصناعي والاهتمام بترقية الفلاح والصانع من الناحية الاجتماعية، ورغم نجاح الإخوان في الحصول على حق إدارة العديد من النقابات المهنية، فلم تتحسن تلك البرامج ولم تشغل عقل الجماعة بقدر ما شغلها استثمار القوة الشرائية المتاحة لأعضاء النقابات المهنية، من خلال تنظيم وإدارة معارض للسلع المعمرة رغم توجه واضح لدى البنا عن ضرورة تقديم المشروعات الضرورية على الكمالية.
ألزمت الجماعة نفسها بجدول لحركتها بين تعريف وتكوين وتنفيذ، فاعتسفت تلك المراحل منتقلة من مرحلة إلى أخرى دون أن تتقيد بشروط كل مرحلة، كما حددتها هي في أدبياتها، وربما يكشف ذلك حجم الانتهازية وغواية الحكم التي سيطرت عليهم.
كان حسن البنا مولعاً باللوائح التنظيمية التي حرص على كتابتها بنفسه، ورغم أنه كتبها بطريقة تؤبد سيطرته على الجماعة فقد ظلت تلك اللوائح سلاحاً تشهره الجماعة في يد المخالف متى ساندت اللائحة مراد القيادة فقط.
كما أنّ غياب الشورى والديمقراطية كان من أهم ما وسم سلوك الجماعة؛ حيث لم تحرص الجماعة على التقيد بآلية المؤتمر العام للجماعة؛ حيث إن جماعة فاق عمرها تسعة عقود لم تعقد حتى تسعة مؤتمرات عامة عبر تاريخها الطويل، في تأكيد على مخالفة لائحة تؤكد ضرورة عقد هذا المؤتمر مرة في العام أو مرتين وفي حرص على قطع الطريق على النقد الذاتي أو المراجعة أو الحوار حتى لو حاولنا رصد المحطات التي خالفت الجماعة فيها مقولاتها التأسيسية لضاقت بنا سطور مقالات متعددة، لكننا أردنا فقط أن نقول إنّ الجماعة لم تحترم حتى مقولاتها التأسيسية، وإنّ الانتهازية وضيق الأفق وعدم القدرة على فهم الواقع وتعقيداته، فضلاً عن عيوبها البنيوية الأخرى كل ذلك ساهم لا شك في وصولها اليوم إلى سكرات الموت التي تعيشها كجماعة شاخت وتجاوزتها الأحداث، وربما حان موعد دفنها تحت الغبار الكثيف الذي أثارته بحياة طويلة لم تكن ذات جدوى حقيقية.
المصدر حفريات