محمد الحمامصي
تلجأ الجماعات المسلحة إلى تبني مجموعة متنوعة من أساليب التمويل لدعم مقاتليها، وهو ما يطلق عليه أيضا باقتصادات الحرب غير القانونية، من خلال تدريبهم على القيام بأنشطة إجرامية، كالسطو على البنوك، والإيرادات المحصلة من السيطرة على الموارد الطبيعية، والفدية وتحويلات المغتربين، والضرائب، والابتزاز. وفي هذا الإطار كان محور دراسة “ملامح البنية المالية للجماعات المسلحة من غير الدول” للباحثة سهير الشربيني والصادرة عن مركز “إنترريجونال للتحليلات الإستراتيجية”.
ورأت الشربيني أن الفاعلين المسلحين من غير الدول، والمعروفين أيضا باسم الفاعلين غير الحكوميين العنيفين، هم “أفراد أو مجموعات مستقلة كليا أو جزئيا عن الحكومات، يهددون أو يستخدمون العنف لتحقيق أهدافهم”. وتختلف الجهات المسلحة من غير الدول بشكل كبير في أهدافها وحجمها وأساليبها، إذ يندرج تحت مظلتها عدد من الأنواع، كالجماعات المتمردة، والميليشيات والتنظيمات التي يقودها أمراء الحرب القبليون، والشبكات الإجرامية والجماعات الإرهابية المسلحة، ممن لديها القدرة بشكل متزايد على زعزعة أو تقويض أو منع عمليات السلام وبناء الدولة بصورة تامة، مما يؤدي إلى دورات متكررة من العنف وانتهاك حقوق الإنسان.
ولعل القوة المتزايدة التي أضحى الفاعلون المسلحون من غير الدول يمتلكونها خلال العقدين الماضيين باتت “دينامية بالغة التعقيد والأهمية في النظام الدولي” في الوقت الراهن، على حد وصف معهد بروكينغز، حيث ظهرت بفعل توسع تلك الجماعات والتنظيمات والشبكات، اقتصادات حرب غير قانونية، توفر سبل العيش لها، وتمكنها من إضعاف الحكومات الشرعية، عبر ممارسة العديد من الأنشطة المهددة للاستقرار. وفي هذا الصدد، يمكن تقسيم الفاعلين المسلحين من غير الدول، على أساس الأيديولوجيا، إلى قسمين: الأول، الفاعلون المسلحون غير المؤدلجين الذين ليس لديهم مرجعية دينية أو أيديولوجية تدفعهم نحو استخدام العنف، بل تدفعهم المصالح المادية فحسب، وهم كالتالي: عصابات المخدرات والمنظمات الإجرامية، الحركات المتمردة، قراصنة الممرات البحرية، الشركات العسكرية الخاصة، حركات التحرر الوطني، الجماعات شبه العسكرية وأمراء الحرب.
◙ الجماعات المسلحة تلجأ إلى تبني مجموعة متنوعة من أساليب التمويل لدعم مقاتليها، وهو ما يطلق عليه أيضا باقتصادات الحرب غير القانونية
ويتمثل القسم الثاني في الجماعات الدينية أو الأيديولوجية، وهي جماعات وتنظيمات تتبنى العنف المسلح كواجب أخلاقي أو مقدس. ومن السمات التي تميزها عن الفواعل المسلحين الآخرين، الأصل الأيديولوجي والتنظيمي للحركة أو الجماعة، إذ يعكس ذلك بشكل أكثر دقة، حقيقة أن الحركة لم تعد محصورة في الشبكات الجهادية المخضرمة، التي ظهرت في سياق الجهاد ضد السوفييت في أفغانستان، وشكلت نواة تنظيم القاعدة. ومن ناحية أخرى، تمثل الجماعات المسلحة الأوسع نوعا جديدا من التنظيمات الدينية؛ والتي يشار إليها بشكل متكرر لاسيما في الأدبيات الغربية، باسم “الجهاد العالمي” أو “الجهاد السلفي العالمي” أو “التيار الجهادي السلفي”.
كما تستخدم مصطلحات “الجماعات المسلحة – الإرهابية”، و”المنظمات المتورطة في أنشطة إرهابية” أو “الجماعات التي تستخدم وسائل إرهابية”، لوصف تلك الجماعات التي تستخدم أكثر من تكتيك عنف. ولا يعتبر هذا المعيار مطلقا، لأنه قد يكون صعبا في بعض الحالات تحديد هدف على أنه مدني، لإثبات أن المدنيين قد استهدفوا عمدا أو للتمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين في منطقة النزاع، بيد أن المدنيين ليسوا هم الهدف المقصود من رسالة تلك الجماعات المسلحة، بل الدولة، لذا تعمل هذه الجماعات على ابتزاز الحكومات للقيام بشيء ما أو الامتناع عنه. ومن ثم، قد تطمح بعض الجماعات الدينية إلى خلق نوع من الرابطة الاختيارية مع المواطنين المحليين، وربما إلى هدف سياسي مشترك، وذلك إما من خلال توفير وظائف أو منح أموال.
ونظرا إلى صعود اقتصاديات الفاعلين المسلحين من غير الدول بوتيرة متسارعة خلال العقدين الماضيين على وجه التحديد، ميزت الشربيني بين اقتصاديات الجماعات المسلحة في ثلاثة أنواع؛ فهي إما أن يكون اقتصادا افتراسيا، أو طفيليا، أو استخراجيا. ويقابل كل نوع منها إستراتيجيات عسكرية مختلفة تتبناها الجماعات المسلحة، لتكون مواتية للمرحلة التي تكون بصددها في اقتصاد الصراع.
وأشارت الشربيني “بالرغم من رحابة نطاق مصادر التمويل المختلفة التي يمكن للجماعات المسلحة الاستفادة منها، إلا أن تمويل الجماعات المسلحة يعتمد بطبيعته على أنواع محددة من التمويل انطلاقا من أهداف ودوافع تلك الجماعات. فمثلا، قد تحصل الجماعات المسلحة من غير الدول التي لديها أنشطة تطوعية على الدعم المالي من الجمعيات التطوعية المرتبطة بها، فيما قد تلجأ الجماعات المسلحة التي ليس لديها دعم طوعي من أي جمعيات إلى النشاط الإجرامي أو السلوك العدواني لتمويل نفسها.
وإجمالا تجني المنظمات الإرهابية والجماعات المسلحة دعما وتمويلا كبيرين من قبل المؤسسات الخيرية والشركات، كما تلجأ إلى التمويل الذاتي والاعتماد على شركائها ومدخراتها، وتسمى تلك الظاهرة بالغسيل الأسود، إذ يتم تحويل الأموال المتأتية من التحصيل عن طريق الجمعيات الخيرية أو تحويل الأموال الاحتيالي أو عائدات الأعمال التجارية، والتبرعات الخاصة أو تهريب والاتجار بالمخدرات، أو الاختطاف للحصول على فدية، أو الإعانات الحكومية والمزايا الاجتماعية، لأغراض تمويل العمليات والنشاطات الإرهابية وتجنيد المزيد من العناصر الإرهابية لتوسيع نطاق انتشارها ومستوى عملياتها”.
وأكدت أن الاتجار بالمخدرات يعد مصدرا جاذبا لجلب الأموال للجماعات المسلحة من غير الدول، إذ يمكنها من جمع مبالغ مالية كبيرة، بما يتيح لها تمويل أنشطتها الإرهابية وتطوير أساليبها وأسلحتها وتعزيز حضورها في أماكن تواجدها. وقد نمت درجة الاعتماد على الاتجار بالمخدرات كمصدر لتمويل الإرهاب، تزامنا مع تراجع رعاية بعض الدول للجماعات الإرهابية، إذ سمح التقارب والتعاون بين المنظمات الإجرامية والجماعات المسلحة في تطوير شبكات دولية وإقامة تحالفات مشتركة وتوسيع وتنويع أنشطتها حتى بات هناك تداخل كبير في ما بينها، إلى درجة أنه لم يعد سهلا التمييز بين الجماعات الإرهابية ومنظمات تهريب المخدرات. وقد ساعدت العولمة في تمكين منظمات الإرهاب والجريمة من التنسيق السلس في ما بينها، والاستفادة من تدويل الاتصالات والأنظمة المصرفية المختلفة وفتح الحدود، حيث ساهم ذلك في تسهيل أنشطتها. وقد كشفت التحقيقات والاستخبارات فعليا عن وجود صلات مباشرة بين مختلف الإرهابيين وتجار المخدرات، وهي علاقات يتم اللجوء إليها بدافع الضرورة أو الملاءمة والمنفعة المتبادلة.
◙ بعض الجماعات الدينية تطمح إلى خلق نوع من الرابطة الاختيارية مع المواطنين وذلك إما من خلال توفير وظائف أو منح أموال
وتطرقت الشربيني إلى مصادر تمويل بعض الجماعات المسلحة كنماذج تطبيقية وهي: تنظيم داعش، طالبان أفغانستان، تنظيم القاعدة وميليشيا الحوثي. وقالت عن تنظيم داعش إنه على مدى السنوات القليلة الماضية، تمكن من تنمية حجم موارده المالية بصورة هائلة، حتى قدرت قيمتها بحوالي 2 مليار دولار أميركي، وهو ما أهل التنظيم للحصول على لقب أغنى منظمة إرهابية في العالم. وقد اتجه تنظيم داعش في إطار سعيه لتضخيم ثروته إلى عدة مصادر: الابتزاز على خطوط إمداد النفط، التبرعات المحلية والضرائب، الاختطاف مقابل الفدية، إعادة تدوير ثروات التنظيم، التوسع في غسيل الأموال وجمع التبرعات بدعاوى إنسانية.
وعن ميليشيا الحوثي لفتت الشربيني إلى أن اقتصاد الميليشيات الشيعية الموالية لإيران يعرف على أنه اقتصاد مواز غير نظامي، ليس لديه أطر تنظيمية وقانونية، على عكس اقتصاد الدولة، وهو كذلك “كل نشاط اقتصادي أو ربحي، منظم أو غير منظم، شرعي أو غير شرعي، ويضم فرض الضرائب غير القانونية، والتجارة غير الشرعية كتجارة المخدرات والتهريب وبيع السلع في السوق السوداء بأقل من أسعارها الحقيقية، وإلى آخره من الأنشطة غير القانونية. وتعتبر ميليشيا الحوثي من أهم الميليشيات الموالية لإيران، وقد أتاحت الحرب المستمرة في اليمن فرصا واسعة لها للبحث عن مصادر دخل وتمويل تسهم في دعم جهودها الحربية، ومن أهم هذه المصادر: تحصيل الجمارك، فرض وجمع الضرائب، جمع التبرعات، زكاة الخمس والتمويل الخارجي”.
وحللت الشربيني عددا من الإستراتيجيات والتوصيات التي يمكن الاعتماد عليها في تجفيف منابع الإرهاب، ومن بينها فك الارتباط بين المسلحين وعصابات الجريمة المنظمة، وأوضحت “نظرا إلى ارتباط الجماعات المسلحة بعصابات الجريمة المنظمة، واعتماد الأولى على الأخيرة في الحصول على مصادر تمويل، أو حتى استكشاف المناطق التي بها ثغرات يمكن من خلالها للجماعات المسلحة تنفيذ عمليات مسلحة للسيطرة على المدنيين والموارد الموجودة بها، فإنه من الجيد أن يبحث صناع القرار في استهداف الصلة بين كليهما وتفكيك العلاقة الترابطية في ما بينهما، واستهداف الموارد التي يتحصلان عليها، حتى يرى كل طرف منهما خطورة استكمال ارتباطه بالآخر، بما يصب في النهاية في صالح منع الجماعات المسلحة من الاستفادة من الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية”.
المصدر العرب