إبراهيم غرايبة
كاتب أردني
يؤسس الإخوان المسلمون لمشروع التكيف الإسلامي مع الحداثة، وصار مشروعهم لأسلمة الواقع والحداثة العمود الفقري لكل مشروعات الجماعات والحكومات للانسجام والمواءمة بين الواقع الحدث والإسلام أو النقد والمواجهة مع العالم والحداثة وصولاً إلى الحرب على العالم التي دشنها تحالف القاعدة والجهاد الإسلامي؛ المشروع الذي أدخل المسلمين والعالم في دوامة من العنف والرعب والتعصب والتطرف.
صحيح من الناحية القانونية أنّ الإخوان المسلمين لم يشاركوا القاعدة وأخواتها وبناتها في عمليات العنف والإرهاب، لكنّهم عملياً أطلقوا المشروع، وزينوا لجماعات العنف عملها وفكرها، وإن لم يشاركوا فيها، وساهموا في إنشاء التوتر والتناقض بين المسلمين وواقعهم وبين المسلمين والعالم، ثم ابتعدوا ليوظفوا منافع العالم والحداثة والديمقراطية والعلمانية في مكاسب سياسية واقتصادية وشخصية!
عندما تشكلت الدولة المركزية الحديثة في عالم العرب والمسلمين كانت تشغلها في العلاقة مع الإسلام (4) تحديات رئيسية: إقامة دول معاصرة منسجمة مع الإسلام، والارتقاء بالمؤسسات الدينية والتعليم الديني لتواكب متطلبات الدولة الحديثة، ومواجهة تيارين علمانيين؛ أحدهما علماني إسلامي يستوعب المعرفة الإسلامية المتخصصة إضافة إلى المعرفة العالمية المعاصرة، مثل علي عبد الرازق وطه حسين ونصر حامد أبو زيد، وغيرهم ممّن تعلموا في الأزهر وتقدموا في التعليم الديني وفي الوقت نفسه استوعبوا المعارف العالمية من مصادرها، والتيار العلماني غير الإسلامي الذي يستند إلى ضرورات وفلسفة سياسية اجتماعية وتصورات للدولة المعاصرة مناظرة للتجربة العالمية المعاصرة.
*الإخوان المسلمين كجماعة سياسية اجتماعية تشكلت حول “الأسلمة” كانت أقلّ ديناميكية من الدول والمجتمعات، وأكثر جموداً وتعصباً*
كان الإخوان المسلمون الشريك الأساسي والفاعل للحكومات في مشروعاتها والتحديات الـ (4) السابقة، لكن حدثت تطورات لاحقة جعلت الشراكة عبئاً على الدول والمجتمعات، فقد استكملت الدولة تحديث وعصرنة مشروعها المؤسسي الديني والتعليمي، ولم تعد بحاجة إلى مشاركة الإخوان المسلمين، ثم إنّ الدولة بطبيعتها وفلسفتها والتغيرات الكثيرة المحيطة بعملها ورسالتها تسلك دائماً، كما هو شأنها، في مسارات براغماتية، وتجري مراجعات مستمرة، في حين أنّ الإخوان المسلمين كجماعة سياسية اجتماعية تشكلت حول “الأسلمة” كانت أقلّ ديناميكية من الدول والمجتمعات، وأكثر جموداً وتعصباً، ثم إنّها صارت تملك شرعية دينية سياسية تنافس السلطات السياسية التي تنظر إلى الدين كقضية سيادية تعتمد عليها في شرعيتها وبناء الهويات والتماسك الاجتماعي ودعم سياساتها ومواقفها، لكنّ التطور الدراماتيكي كان في تخلي الإخوان المسلمين عن مشروعهم الإصلاحي والتحول إلى جماعات سياسية تحمل فكراً مفاصلاً للدول والمجتمعات ويستعلي على الآخرين ويشعر بالتميز والأفضلية الدينية ثم الملاءمة السياسية والاجتماعية.
لكنّ الجماعة لم تقدر على التوفيق بين طبيعتها البراغماتية وبين الإيديولوجيا الجديدة المتطرفة، فدخلت في مسارات جديدة خطيرة، منها نشوء جماعات عنيفة متطرفة، وبناء دوغمائية اجتماعية جديدة تنشئ شرعيتها السياسية والدينية على رفض الآخرين من المسلمين وغير المسلمين وتكفيرهم والانتقاص منهم والحروب السياسية السلمية على أساس التميز الديني؛ ممّا أنشأ حالة من التعصب الديني الكاسح والخارج عن السيطرة!
تحولت “الإسلاموية” إلى ظاهرة شعبية سائدة تؤثر في الدول والجماعات والعلاقات الدولية، وأطرت معظم، إن لم يكن، جميع الحركات والجماعات الثورية والسلمية والمشاركة السياسية الديمقراطية أو غير الديمقراطية والمواجهة الفكرية والسياسية مع الغرب والعالم “صراع الحضارات”.
*التطور الدراماتيكي كان في تخلي الإخوان المسلمين عن مشروعهم الإصلاحي والتحول إلى جماعات سياسية تحمل فكراً مفاصلاً للدول والمجتمعات ويستعلي على الآخرين ويشعر بالتميز والأفضلية الدينية ثم الملاءمة السياسية والاجتماعية*
يمثل المعهد العالمي للفكر الإسلامي نموذجاً للمشاريع الإسلاموية العصرية التي استخدمت الحداثة وفرص الغرب وعطاياه وحظيت بدعم مالي كبير لتنشئ حالة محيرة، إن لم تكن مريبة، من صراع الحضارات والتميز الإسلامي الخالي من العلم والمعرفة والمعنى والجدوى لتؤول في المحصلة إلى الوهم الإسلاموي بلا عطاء معرفي أو علمي، ليس سوى الانعزال عن العالم مع الانتفاع بمزاياه وعطاياه ورفض آفاقه وفرصه المعرفية والعلمية، لم يكن في واقع الحال سوى شعوذة أنيقة حداثوية لم تنشئ معرفة إسلامية ولا معرفة معاصرة، ولم يُقدّم، برغم عشرات الملايين التي أنفقها، إضافة علمية أو معرفية تذكر، سواء إلى الثقافة الإسلامية نفسها أو إلى المعارف العلمية المتخصصة في سائر فروعها وحقولها.
لم يكن هناك من فائدة تذكر لهذه الجماعات والمؤسسات سوى أنّها عزلت المثقفين الإسلاميين عن عالمهم وتخصصاتهم المعرفية، ثم ساقتهم بعيداً إلى ضد أهدافهم وغاياتهم كما تساق العجول إلى المسالخ.
وفي الضفة الشيعية من عالم الإسلام تشكلت حوزات ومؤسسات دينية تحظى بمئات المليارات، لم تضف إلى المعرفة الإسلامية والعلمية شيئاً يذكر، لكنّها أنشأت جماعات هائلة من المتعصبين المدربين تدريباً عسكرياً متقدماً والمشحونين بالكراهية التي تختص إخوانهم المسلمين دون سائر الناس.
*لم تقدر الجماعة على التوفيق بين طبيعتها البراغماتية وبين الإيديولوجيا الجديدة المتطرفة، فدخلت في مسارات جديدة خطيرة، منها نشوء جماعات عنيفة متطرفة، وبناء دوغمائية اجتماعية جديدة تنشئ شرعيتها السياسية والدينية على رفض الآخرين من المسلمين وغير المسلمين وتكفيرهم والانتقاص منهم*
تاريخياً يشار دائماً إلى الحداثة الإسلامية باعتبارها مبادرات ريادية من شخصيات إسلامية استوعبت الإسلام والعصر، مثل جمال الدين الأفغاني، وخير الدين التونسي، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، لكنّها مبادرات وبرامج على أهميتها وقيمتها العالية كانت مشروعات أمّة وليس دولة مركزية، ارتبطت بمرحلة ما قبل الدولة المركزية، وكانت تظن أنّ الإمبراطوريات الواسعة مؤبدة، ولم تكن الدولة الحديثة فكرة متصورة بعد. لقد صعدت الدولة المركزية بديلاً تنظيمياً وسياسياً وإيديولوجياً أيضاً، فأنشأت هويات وروابط ومؤسسات جديدة لم تكن معروفة من قبل، وكان يجب بطبيعة الحال أن ينشأ فكر تنظيمي وسياسي حول الدولة المركزية ونهضة المجتمعات والأوطان، وقد ساهمت جماعات ومؤسسات الأسلمة في مشروعها الاسترجاعي في تأخير وإفشال الاستيعاب العلمي والمعرفي المعاصر الذي تشكلت حوله الأمم الجديدة، وأنشأت انفصالات عميقة بين حاجات الناس وتطلعاتهم وبين مشاعر قوية من الحنين إلى الماضي والتميز والتفوق التاريخي، دون اعتبار كافٍ للمقومات الفعلية والمادية للإصلاح والتنمية.
وعطلت وأهدرت موارد الأمم، وشاركت في انصرافها إلى غايات بعيدة عن المبررات الحقيقية لنشوء الدول والمدن والمؤسسات.
نقلاً حفريات