صلاح الدين حسن
كاتب مصري
ما إن ينفلت إصبع الإبهام من تحت إصبع السبابة، حتى تطير العملة المعدنية متقلبة إلى الأعلى في الهواء، وفي حركة خاطفة تلقفها الكفّ، لتدبّ بها على الأرض بحماس، فلا يعلم أحد على أيّ وجه هي: الملك أم الكتابة؟
انخرطنا ونحن صغار، في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، في لعبة “الصور”، التي كانت لا تنتهي سوى بفوز أحد منا في الحصول على ما في جعبة الآخرين من ورق مربع مطبوع، عليه صور لنجوم فنّ أو كرة مشاهير.
ذات يوم؛ توقف شاب بدراجته، ثم تقدم نحونا ليجلس بيننا، كان بلحية خفيفة وزبيبة صلاة تدمغ جبهته، تحدث وهو ينظر إلى أرض، ما خفف من وقع الإحراج والخجل على كاهلنا، وأخذ يتحدث عن حرمة ما نفعل، وأنّه لا شكّ يغضب الله.
في البدء كان التواضع
ساق الشاب أدلة من القرآن الكريم والسنّة النبوية، ثم رفع عينيه في أعيننا قائلاً: “أنتم الجيل الذي سيحمل رسالة الإسلام، أنتم البراعم التي ستتفتح في حدائق الإيمان، نلتقي اليوم في الجامع الكبير في صلاة المغرب، إن شاء الله”.
كان لكلماته وقع على قلوبنا، كانت المرة الأولى التي نرى مثله يقدّر أطفالاً أصغر منه بأعوام عديدة، لم يستنكف في الجلوس معنا، والتحدث إلينا بود وتواضع، قررنا ألا نعود لمثل هذا اللعب، وعند المغرب ذهبنا للصلاة.
استقبلنا الشاب بحفاوة بالغة، لم نعتد عليها من أبناء جيله، وأهدانا بعضاً من قصص الأنبياء، عليهم السلام، والصحابة، رضي الله عنهم، ذات الألوان المبهجة، ثم دعونا لجلسة تلاوة القرآن الكريم، لم يكن هناك في حديثه ما يشي بأنّ ثمة توجيهاً سياسياً.
ذات يوم؛ فوجئت بزيارة الشاب، وبرفقته عدد من أقرانه، إلى منزلي، لم تكن الزيارة خاصة بي فقط؛ بل وبإخوتي أيضاً، دخل والدي، فألقى السلام ورحّب بالضيوف، لكنّه لم يكن يبدو سعيداً بوجودهم في داخله.
محاولة إحياء ماضٍ مرير
بعد أن انصرفوا، بدأ الوالد في الإفصاح عن تخوّفه من سرّ زيارة الضيوف الجدد غير واضحة الأهداف، متهماً إياهم بأنهم يخفون ولاءهم لجماعة اسمها “الإخوان المسلمون”، ارتكبت أعمال عنف فيما مضى وانهزمت في صراعها مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
قال والدي: إنّ تلك الجماعة ظهرت في بلدتنا منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، على يد رجل يدعى “البلوك أمين عبد الجواد”، كان رئيس نقطة الشرطة في البلدة، بعد أن ألغيت العمودية منها إثر صراعات بين العائلات.
دعا عبد الجواد، جدّي لأمي، وعدداً من رفقائه، للانتماء لجماعة الإخوان، وشرع في فتح أول شعبة للتنظيم في البلدة، ثم انطلق في تدريبات رياضية لعدد من الشبان في منطقة جبلية مجاورة.
ظلّ الرجل في نشاطه، حتى تم نقله إلى محافظة جنوبية، وعام 1954؛ تعرّض جدي للاعتقال، ومعه عدد من رجالات القرية، مع أنّه كان قد ابتعد عن نشاط الجماعة منذ رحيل “البلوك أمين”.
لم يمكث جدي أياماً رهن الاعتقال، بعد تدخّل أحد أصدقائه النافذين، إلا أنّ تلك الواقعة أحدثت صدى وتأثيراً كبيراً بين أهالي القرية، التي ارتبط ذكر جماعة الإخوان عندها بالسجن والاعتقال، فانقطع ذكرها حتى مطلع الثمانينيات، وشرع هؤلاء الشباب في إعادة بعث الجماعة مجدداً.
كان هؤلاء الشباب في طريقهم للجامعة ذات يوم، فالتقى بهم أحد عناصر الجماعة في إحدى باصات النقل العام الحكومية، فتعرّف إليهم، وبدأت تأثيراته في الظهور بعد أن دعاهم لزيارته في منزله، وربطهم بكوادر الجماعة في عاصمة المحافظة، وبعدها بدأ نشر دعوتهم سريعاً في القرية.
من الوعظ إلى السياسة
كانوا هادئين مسالمين، حريصين على الدعوة إلى قيام الليل، فانجذب إليهم عشرات الفتيان والشبان، وشكلوا جماعة صغيرة أخذت في النمو التدريجي، بعد عام 1987؛ دعت الجماعة إلى مشاهدة شريط فيديو حمل اسم “الوعد” في إحدى البيوت التابعة لهم، كان يحكي عن انتفاضة الحجارة الفلسطينية، ويظهر نماذج لعشرات الأبطال وهم يقاومون الاحتلال الصهيوني بالمقلاع، وكانت أعيننا تفيض من الدمع حزناً لما آلت إليه الأمة، وشعوراً بالعجز عن مناصرة المقاومة في فلسطين، ثم بدأت حملات التبرعات بواسطة أعضاء الجماعة بدعوى أنّها ذاهبة للإخوة في فلسطين.
عام 1990؛ ذهبنا لمشاهدة شريط فيديو بعنوان “الله أكبر فتحت كابل”، يحكي عن جهاد المجاهدين الأفغان ضدّ الغزو السوفييتي، ويظهر مشاهد للحرب تقشعر لها الأبدان، ولقاءات مع قادة المجاهدين؛ كقلب الدين حكمتيار، وعبد ربّ الرسول سياف، وأحمد شاه مسعود، …إلخ، كانت تتخلل المشاهد صيحات التكبير، وللمرة الأولى تعالت صيحات “الإسلام هو الحلّ”، و”الله غايتنا”، و”الرسول زعيمنا”، و”القرآن دستورنا”، و”الجهاد سبيلنا”، و”الموت في سبيل الله أسمى أمانينا”، وبعدها دشِّنت حملة تبرعات جديدة.
ثم اشتعلت حرب البوسنة والهرسك، وقدمت أشرطة الفيديو التي تظهر الفواجع التي يتعرض لها المسلمون هناك، وبدأت الجماعة في لصق الصور البشعة على الجدران، ونزل أعضاء الجماعة إلى الأسواق لجمع التبرعات.
التبشير بعودة الخلافة الإسلامية
عام 1993؛ زار الشيخ، وجدي غنيم، القرية التي باتت متسعة الأطراف، وبعد أن تناول الغذاء ذهب ليلقي درساً في الجامع الكبير، الذي احتشد فيه المئات ليسمعوا الشيخ الذي يخلط النكتة بالخطاب المفترض أنه ديني، إلا أنّه بدا مليئاً بالسياسة.
تحدّث الشيخ عن أنّ ما تناقلته وسائل الإعلام عن قتال بين المجاهدين في أفغانستان كاذب، بل هي قوات أحمد شاه مسعود تقاتل “الشيوعي الكافر”، عبد الرحيم دستم، ثم كشف غنيم أنّ: الدولة الإسلامية في مصر ستقام عام 1997، وأن هذا العام سيكون بداية عودة الخلافة.
عام 1995؛ قررت الجماعة دخول الانتخابات البرلمانية المصرية، ودفعت بالجماعة في القرية بمساندة مرشحها الذي يرفع شعار “الإسلام هو الحل”، فكانت المرة الأولى التي تدخل فيها تلك المجموعة في صدام بائس مع الجمهور، الذي كان حريصاً على مساندة مرشحهم التلقيدي الذي ينتمي لإحدى العائلات.
شكّلت هذه الواقعة الشقّ الأول في العلاقة بين الجماعة وأهالي القرية؛ إذ اصطدما في أكثر من مرة، كان أكثرها خطورة صبيحة يوم الانتخابات، كانت الجماعة قد اتفقت مع كبار العائلات على الحصول على نسبة من الأصوات المزورة، وهي ظاهرة ما كان يسمى وقتها “تقفيل الصناديق”، وفيها لا يذهب المصوّتون للتصويت؛ بل تجهّز البطاقات الانتخابية من قبل عدد من الأشخاص المتفق عليهم لصالح المرشح المتفق عليه، والذي غالباً ما يكون منتمياً لعائلات البلدة.
السقوط في فخّ السياسة
رضي الإخوان بتلك الاتفاقية، إلا أنّ العائلات نكثت بتلك الصيغة المزورة؛ إذ إنّهم اكتشفوا، وهم خبراء في سياسات التحالفات الانتخابية، أنه إن حصل مرشح الجماعة على تلك النسبة في لجانهم الانتخابية، ثم حصلوا عليها في لجان أخرى ضمن الدوائر الانتخابية، فإنه قد يفز في مواجهة مرشّحهم.
عندما علمت الجماعة بنكث الاتفاقية؛ أصدرت أوامرها لعناصرها بالتجمع أمام اللجنة الانتخابية الرئاسية، حاملين الشوم والعصي، في استعداد للهجوم على رجال العائلات، التي ينتمون هم إليها أيضاً، فباتوا للمرة الأولى في مواجهة قد تفضي إلى الموت في مواجهة الأهل والأقربين.
مع أنّ الجماعة انصرفت، ولم يحدث الصدام، إلا أنّ تلك الواقعة تركت أثراً عميقاً في وجدان الجميع، ولم يعد يتقبل الكثيرون من الجماعة دعوة هينة، إذ كان من الممكن أن يتحول الساكن المسالم إلى حامل سلاح في مواجهة الناس غداً.
منذ ذلك العام؛ انخرطت الجماعة في العمل السياسي، وأخذت تبتعد بمسافات عن العمل الدعوي، وتحوّلت المجموعة إلى نشطاء سياسيين لا يهمهم سوى استجلاب المكاسب.
الرفض المجتمعي
كانت القرية على موعد مع العرس الأول لأحد أفراد جماعة الإخوان المسلمين، بعد أن غزاها التنظيم، في مطلع منتصف ثمانينيات القرن الماضي.
عقدت الجماعة قران عضوها في المسجد، بحضور أحد قادة الجماعة، الذي أصرّ على تلاوة صيغة العقد بنفسه، أمام حشد من أنصار الجماعة؛ الذين جاء معظمهم من المراكز المحيطة، في استعراض لقوتهم، ولفت الانتباه أمام الأهالي، الذين لم يعتادوا هذا المشهد من قبل، واقتصر عقد قران أبنائهم في البيوت على حضور المقربين.
في المساء؛ كانت الجماعة قد نصبت مسرحاً خشبياً، يشبه تلك المنصات التي ينصبها الأهالي في تلك المناسبات، لكي تعتليها الفرقة الموسيقية، التي ستحيي الفرح، بواسطة عدد من المطربين وربما الراقصات الشعبيات.
احتشد عناصر الجماعة ومئات الأهالي، الذين أخذهم الفضول لاستكشاف ما قد تقدمه الجماعة، التي انتهجت شعائر التمايز تحت دعوى “أسلمة المجتمع”.
خرجت مجموعة من الشبان تضرب الدفوف، ثم بدأت تنشد: “أفراح أفراح الندى… الكون غنى منشدا… يا فوز من قد اهتدى… الكون غنى منشدا… بأحمدا وأيدا… فنال عيشاً أرغدا… فرقة الندى جاية ترشد… للأغاني العذبة تنشد… كل حرف وله معاني والكلام إن طاب يرشد”.
تنتهي فقرة الإنشاد، ثم يتوجه قائد الفرقة إلى العريس، الذي يجلس وحيداً دون عروسته، ليبدأ في طرح بعض الأسئلة، التي من المفترض أنها فكاهية، فلم يكن يضحك بشدة سوى أعضاء الجماعة، الذين لا تنفكّ أعينهم عن النظر للحضور في محاولات لقراءة ردود أفعالهم.
أسلمة غير مهضومة
لم يهضم الحضور ما يجري، تحت الشعور بالاختلاف والنشاز، فلم يكن يتمتع أحد من أعضاء الجماعة في البلدة بصوت حسن، ولم يكن أحد يتمتع بخفة ظل تسمح له بإضحاك الجمهور من خلال (اسكتشات) الجماعة التي تحمل وعظية وإرشادية مباشرة وفجّة.
ولم يكن أحد يتفهم لماذا تحاول الجماعة السير على خطى الطرب المصري أو العربي، ذي المقامات المعروفة؟ ولماذا تنتهج هذا الزجل البعيد عن البيئة المصرية أو الريفية والذي لم يألفوه من قبل؟!
كانت الجماعة تتقصد فرض نموذجها على الثقافة المجتمعية السائدة، ولم يكن في وسعها ذلك، فالثقافة المجتمعية السائدة كانت قادرة على التأثير المضاد عليها، فمع أنها بدأت بفرض الخمار على نسائها والدعوة لارتدائه في البداية، إلا أنها انتهت إلى شكل الحجاب السائد في المجتمعات العربية وقل ارتداء الخمار.
بدأت الجماعة دعوتها في القرية، وهي تحرّم الموسيقى، أو مشاهدة التلفاز، وبعد انتشار أجهزة “الستالايت” في مطلع الألفية الجديدة، كان أعضاؤها من أوائل الذين اشتروا الأطباق الفضائية، وأدخلت الموسيقى على أناشيدها التي اقتربت من لحن وتوزيع أغاني عمرو دياب.
بعد مرور ما يقرب من 30 عاماً على وجود الجماعة في البلدة؛ خرجت تظاهرات تشبه الثورة الداخلية على الجماعة، في 30 حزيران (يونيو) 2013، لم تكن رافضة لوجود الجماعة سياسياً فقط؛ بل سبق ذلك الرفض الاجتماعي لثقافة الجماعة، المنخرطة في المجتمع والمتعالية في الوقت ذاته.
نقلاً عن حفريات