كريتر نت – متابعات
تتحرك إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن على أكثر من صعيد لتحقيق تقارب ملموس مع الصين، وآخرها كانت دعوة وزير الخارجية الصيني الجديد وانغ يي إلى زيارة واشنطن، وهو ما تقول تقارير إنه سيضع بايدن في موقف محرج في حال لم تتحقق الزيارة التي لن تكون سببا كافيا لتعزيز العلاقات، فالملفات الخلافية أكثر من المصالح والشراكات التي تجمع البلدين.
وشهدت الفترة الأخيرة عددا من مؤشرات التقارب بين الجانبين الأميركي والصيني، أبرزها انفتاح الصين على الدعوة الأميركية، حيث أعلن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أن بلاده وجهت دعوة إلى نظيره الصيني المعيّن حديثا وانغ يي، وأنه يتوقع فرصة لإجراء لقاء معه ومواصلة المحادثات العامة التي أجراها في بكين. في المقابل أعلنت بكين أنها مستعدة للإبقاء على الاتصالات مع الولايات المتحدة حول الزيارة المستقبلية المحتملة دون تحديد تاريخ محدد لهذه الزيارة.
وسبق أن أجرى وزير الخارجية الأميركي زيارة إلى الصين في يونيو الماضي، وهي الزيارة التي كان من المقرر إجراؤها في فبراير إلا أنه تم تأجيلها في أعقاب حادث المنطاد الصيني، الذي أسقطته واشنطن، وقالت إنه كان يُستخدم لأغراض تجسسية. وقد أعادت هذه الزيارة الآمال بشأن إمكانية تحسين العلاقات بين البلدين، ولاسيما وأنها الأولى لمسؤول أميركي بإدارة الرئيس جو بايدن للصين، بهذا المستوى، بعد خمس سنوات على زيارة وزير الخارجية السابق مايك بومبيو في عام 2018.
كذلك قامت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين بزيارة إلى الصين، في الفترة من السادس إلى التاسع من يوليو الماضي. وقد صرّحت بأن محادثاتها في بكين كانت مباشرة وجوهرية ومثمرة، وأنها قد أسهمت في الدفع بالعلاقات بين البلدين على أسس أكثر رسوخا، مؤكدة أن الولايات المتحدة تحت رئاسة جو، ليست معادية بشكل جوهري للصين.
أسفرت تلك الزيارة عن اجتماع كبار المسؤولين الاقتصاديين في كلا البلدين، على طاولة المفاوضات في بكين لبحث المسائل الثنائية ومتعددة الأطراف والعالمية التي تتعلق بالتعريفات الجمركية والديون العالمية والتغيرات المناخية وصناعة أشباه المواصلات.
وقام وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، بزيارة الصين في التاسع عشر من يوليو، حيث اسُتقبل من قبل الرئيس الصيني شي جينبينغ، والتقى عددا من كبار المسؤولين الصينيين، كان في مقدمتهم وزير الدفاع الصيني لي شانغ فو. ورغم التأكيدات الرسمية الأميركية أن الزيارة جاءت بدافع شخصي من كيسنجر، إلا أنها تشير إلى أن الإدارة الأميركية صارت أكثر انفتاحا للمضي قدما في المسارات الرسمية وغير الرسمية لتخفيف حدة التوتر والسعي لترطيب الأجواء مع بكين.
وإلى جانب ذلك، فقد شارك المبعوث الأميركي الخاص بتغير المناخ جون كيري في محادثات في بكين مع نظيره الصيني شيه تشن هوا، خلال الفترة من السادس عشر إلى التاسع عشر من يوليو، كما التقى بوانغ يي، وأكد أن التعاون بشأن التغير المناخي يتقدم في ظل المناخ العام المستقر بين الصين والولايات المتحدة.
ولم تقتصر الزيارات الأميركية إلى بكين على القادة السياسيين فحسب، وإنما امتدت لتشمل زيارات لكبار رجال التكنولوجيا والاقتصاد في الولايات المتحدة، إذ أجرى مالك موقع “تويتر” وشركة “تسلا” إيلون ماسك، ومؤسس شركة “مايكروسوفت” بيل غيتس، والرئيس التنفيذي لشركة “آبل” تيم كوك زيارة إلى الصين، وأكدوا ضرورة استمرار الروابط الاقتصادية والتجارية الضخمة بين الولايات المتحدة والصين، باعتبارهما أكبر اقتصادين في العالم.
ويقول تقرير لمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة إن ثمّة أسبابا تدفع باتجاه تهدئة التوترات بين الولايات المتحدة والصين، أولها تشابك العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين بشكل كبير، إذ بلغ إجمالي حجم تجارة السلع بين البلدين نحو 690 مليار دولار في عام 2022، وقد بلغت واردات الولايات المتحدة من السلع والخدمات من الصين رقما قياسيا وصل إلى نحو 564 مليار دولار خلال نفس العام، كما تعد الصين ثالث أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة بعد كندا والمكسيك، هذا إلى جانب أن الصين تمثل سوقا رئيسيا للتصدير بالنسبة للولايات المتحدة، حيث تصدر الأخيرة نصف صادرات الفول الصويا إلى الصين. وتشير تقديرات مجلس الأعمال الأميركي – الصيني إلى أن الصادرات الأميركية إلى الصين دعمت ما يقرب من 1.1 مليون وظيفة في الولايات المتحدة في عام 2021. لذا يدرك الجانبان أن انخراط أكبر اقتصادين في العالم في منافسة جيوستراتيجية شرسة، أمر من شأنه تهديد اقتصادهما بشكل كبير، بل ويشكل كارثة على الاقتصاد العالمي.
في حال لم يجر مسؤول صيني كبير زيارة لواشنطن، ستتعرض إدارة بايدن لانتقادات حادة من قبل الجمهوريين
كذلك، أدرك الأميركيون أن استمرار الخلافات مع بكين ومواصلة فرض العقوبات الغربية على روسيا أديا إلى تقارب غير مسبوق بين الصين وروسيا، سواء في ما يتعلق بالتبادلات الاقتصادية، أو ما يتعلق بالنواحي التكنولوجية العسكرية والدفاعية، وقد أسفر ذلك عن وقوف الصين في موقف داعم لروسيا في الحرب الأوكرانية. لذا تسعى واشنطن، من خلال تقاربها مع بكين، إلى دق إسفين بين الجانبين، نظرا لما تمثله العلاقة بين البلدين من تهديد للمصالح الأميركية والغربية عموما.
وترغب إدارة بايدن في توصيل رسالة مفادها أنها لا تسير على نهج الإدارات الأميركية السابقة بشأن التعامل مع الصين، فمن ناحية، تعلم إدارة بايدن أن إستراتيجية “التحول نحو آسيا”، والتي أُعدت في عهد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما بهدف منافسة التقدم الصيني العسكري والاقتصادي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، لم تسفر سوى عن تركيز واشنطن على تعزيز تشكيل تحالفاتها في المنطقة، وعلى وجه الخصوص مع اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، وتكثيف الوجود العسكري الأميركي في المنطقة من خلال زيادة الأصول البحرية في المنطقة الآسيوية، ومن ناحية أخرى، ترى الإدارة الحالية أن إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب اعتمدت فقط نهجا أكثر تصادميا، أدى إلى حرب تجارية وكلامية بين البلدين. وفي كلا النهجين، فشلت الولايات المتحدة الأميركية في تقويض واحتواء النفوذ الصيني المتصاعد. وبناء عليه، فقد انتهجت إدارة بايدن رؤية متفردة، تجعلها قادرة على التعامل مع التحديات الصينية بصورة أكثر توازنا وانفتاحا وبعيدة عن الدخول في صدام معها.
ويوضح تقرير مركز المستقبل أنه رغم وجود دوافع عديدة للتقارب بين الجانبين، إلا أن هناك تحديات ما زالت قائمة، تحول دون وصول العلاقات إلى مستويات متقدمة، في مقدمتها استمرار دعم واشنطن لتايوان التي تمثل أحد أكثر الملفات زخما بين الجانبين، فرغم التأكيدات الأميركية الرسمية على مبدأ الصين الواحدة، وعدم دعم واشنطن لاستقلال تايوان عن الصين، فقد تزامنت دعوة الولايات المتحدة لوزير الخارجية الصيني إلى زيارتها مع إعلانها أيضا في الثامن والعشرين من يوليو عن تقديمها حزمة أسلحة بقيمة 345 مليون دولار لتايوان، وهو ما يعد، في نظر بكين، انتهاكا لمبدأ الصين الواحدة، والذي تفاوض عليه كيسنجر عام 1971.
وقبل يومين على إعلان البنتاغون بيع أسلحة إلى تايوان، كان وزير الدفاع الأميركي في أستراليا للحديث عن ترتيبات بشأن نقل غواصات تعمل بالطاقة النووية إلى أستراليا بموجب اتفاق “أوكوس” الثلاثي، وأثناء الزيارة اتهم أوستن الصين بأنها تمارس الإكراه والتنمر على دول المنطقة، في مؤشر على استمرار التوتر بين الجانبين، خاصة في ما يتعلق بالأبعاد العسكرية. كما تتواصل التحرشات العسكرية بين القطع الحربية الصينية والأميركية في المنطقة، ومنها ما نشرته البحرية الأميركية في الخامس من يونيو، من تسجيل مصور لاقتراب سفينة حربية صينية من مدمرة أميركية في مضيق تايوان، والعبور من أمامها بطريقة وصفتها البحرية الأميركية بأنها غير آمنة، وغير ذلك من الحوادث، والتي تعكس خطورة أن تتحول هذه التحركات العدائية العابرة إلى حدث عسكري ضخم يؤدي إلى نتائج كارثية.
ويتوقع مراقبون أن التحسن في العلاقات الثنائية الأميركية – الصينية سينتهي بحلول عام 2024، وذلك مع بدء الحملات الرئاسية الأميركية، إذ من المتوقع أن يهاجم المرشحون الجمهوريون بايدن لاسترضائه الصين، بينما يتنافسون حول الأكثر تشددا حيالها.
والجدير بالذكر أن الزيارات التي قام بها المسؤولون الأميركيون لم تسلم من انتقادات بعض أعضاء الكونغرس، فعلى سبيل المثال، شجب رئيس لجنة التصدي الإستراتيجي للصين مايك غالاغر، ورئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب مايكل ماكول، زيارة بلينكن باعتبارها أحد مؤشرات ضعف الولايات المتحدة. وتفيد تقديرات بأنه في حال لم يجر مسؤول صيني كبير زيارة إلى واشنطن، فإنه من المتوقع أن تتعرض إدارة بايدن لانتقادات حادة من قبل الجمهوريين، قد تؤثر في حظوظها في الانتخابات القادمة.
ويمكن القول إن دعوة الولايات المتحدة لوزير الخارجية الصيني، وانفتاح الصين على تلك الدعوة، تأتي في سياق حرص الجانبين على إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة بينهما، رغم الملفات الشائكة القائمة، ويحول ذلك دون تحول تلك الخلافات إلى مستوى المواجهة بين الطرفين، وهو الأمر الذي ستكون له عواقب كارثية ليس فقط على الجانبين، وإنما أيضا على الأمن والاستقرار العالميين. ولعل هذا ما كشفه مستشار الأمن القومي جيك سوليفان خلال تصريحاته في منتدى “آسبن” الأمني الذي انعقد في يوليو 2023، حيث أشار إلى أن هناك إمكانية حقيقية لتأسيس علاقة مستقرة بين الولايات المتحدة والصين، على الرغم من أن هذه العلاقة تنافسية بطبيعتها.
ويرجح مركز المستقبل أن تشهد الفترة القليلة المقبلة انفراجة واضحة بين البلدين قد تتوج خلال لقاء الزعيمين بايدن وجينبينغ في قمة العشرين في سبتمبر المقبل بنيودلهي أو في منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ في نوفمبر المقبل بسان فرانسيسكو.