أحمد بان
كاتب مصري
يتجاهل “الخوارج” في كل الأزمان أنّ العبادة المرتبطة بالطقوس والشعائر هي الأقل زمنياً في حياة المسلم؛ وأنّ عمارة الأرض، وتحسين حياة الناس، وإسعادهم، هي قلب العبادة التي غفلوا عنها وخاصموها لغايات تتجاوز الإخلاص لله تعالى الذي يزعمون.
سلوكيات متناقضة
بلغ الخوارج في هذا الأمر مبلغاً عظيماً، يصفهم جندب الأزدي في قوله: “لما عدلنا إلى الخوارج، ونحن مع علي ابن أبي طالب، كرّم الله وجهه، انتهينا إلى معسكرهم، فإذا لهم دويّاً كدويّ النحل من قراءة القرآن، وإذا فيهم أصحاب البرانس الذين كانوا معروفين بالزهد والعبادة”.
وقد وصف أحد زعمائهم، وهو عبدالله بن وهب، بأنّه ذو الثفنات؛ حيث كانت يداه كثفنات الإبل من كثرة وضعها على الأرض في السجود.
بل ووصل اجتهاد بعضهم في العبادة حدّ المغالاة والخروج عن الرفق بالنفس، إلى التنطع؛ فقد طلب ابن زياد من مولى عروة بن حدير أن يصف له أمر عروة بعدما قتله، قائلاً له: صف لي أمره واصدق، فقال: أأطنب أم أختصر؟ قال: بل اختصر، قال: ما أتيته بطعام في نهار قطّ، ولا فرشت له فراشاً بليل قطّ، قال الشهرستاني، بعد أن ذكر الحادثة: “هذه معاملته واجتهاده وذلك خبثه واعتقاده”.
وصدر ما يحير العقل في تناقض سلوكهم الديني، فبينما هم شديدو الغلوّ في الدين والعبادة، هم شديدو الحقد على خيار الصحابة، عليهم السلام، مستحلّون لدمائهم؛ فهذا ابن ملجم يقتل علياً بن أبي طالب، رضي الله عنه، ومع ذلك يقف عند القصاص منه كأثبت الناس وأعبدهم.
وقد تكررت هذه الصورة بالذات في واقع معظم جماعات التطرف، حتى في عصرنا الحديث؛ فما يزال أعضاء تلك الجماعات يتناقلون صوراً مشابهة، تسجل ثبات قادتهم، وهم على أعواد المشانق مبتسمين لمصائرهم، يعتبرونها دليل انحياز للحقّ المطلق الذي يعتقدونه، وطريقة لتثبيت معتقداتهم الخاصة.
فلماذا تحرص كلّ تلك الجماعات، من خوارج الماضي إلى خوارج اليوم، على هذا التقليد، بالمبالغة في الشعائر والطقوس، ولماذا تتناقل هذا التقليد في تكرار مدهش؟
إغراق في الواجبات
إنّ معاينة أيّة مادة مصورة لقيادات أو عناصر جماعات التطرف بشتى انتماءاتها؛ تكشف قاسماً مشتركاً؛ هو إلزام أعضائها بواجبات محددة، وطقوس تصنع صورة واحدة للعضو؛ هو هذا الشخص المتبتل التقي الذي يؤثر في محيطه بحاله أكثر من مقاله، رغم أنّهم أيضاً، في عملية التنشئة، لا يهملون المقال؛ حيث تجد أكثرهم يتحدثون لغة فصيحة منضبطة، وهو ظلّ يشابه ظلّ الخوارج أيضاً، فقد كانوا أصحاب بيان، وبرعوا جداً في قرض الشعر، كما يلاحَظ في عناصر الجماعات المسلحة اهتمام بالأمر نفسه، وقد حلّت الأناشيد والأرجوزة محلّ المارشات العسكرية وطبول الحرب لديهم.
جعل حسن البنا إيمان الأخ في الإخوان بالبيعة يوجب عليه أداء 38 واجباً، تتباين بين واجبات تحصيل بعض الدروس والتعاليم الدينية، إلى الامتناع عن مشروبات الشاي والقهوة، إلى الحرص على الاطلاع على رسائل الإخوان واستظهار دعايتهم، إلى الاشتراك بقسم من ماله للجماعة، إلى مقاطعة كلّ الهيئات والجماعات التي لا تشاركه تصوره، إلى الطهارة والصلاة والصوم وتجديد التوبة والاستغفار والالتزام بأوراد وأذكار، والتعرف العميق إلى أفراد كتيبته، ونشر دعوته في كلّ مكان، وعبر ما يسمى “ورد المحاسبة”، يتأكد المشرف عليه من قيامه بهذه الفروض والواجبات التي وضعها التنظيم، والتي تستهدف في النهاية حصار كلّ أوقاته وحضور التنظيم في كلّ دقيقة في حياته، صناعة شخص ناسك عابد مغرق في الطقوس، يسمع لقيادته في المنشط والمكره ويبايع على ذلك.
تاريخ يعيد نفسه
الأمر يتكرر في كلّ الجماعات السلفية والجهادية، من خلال جباه مقرحة من طول السجود، لكن لا يرافق ذلك عقول يجهدها التفكير في شيء، فقد أوكلت المهمة للقيادة أو الأمير.
تحرص كلّ الجماعات على إغراق أعضائها في عالم الطقوس والشعائر، التي تستفرغ الجزء الأكبر من وقت العضو بالشكل الذي لا تدع له وقتاً لعبادة التفكر مثلاً، والتي تعني إعمال العقل الدائم في نفس الإنسان، وكون الله الواسع، والتبحر في كلّ الفنون والعلوم، التي جعلها الله سبيلاً لمعرفته وخشيته: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾؛ لأنّهم أعرف به، فهم أكثر الناس خشية ومحبّة.
لا تريد تلك الجماعات للشخص أن يفكر، ولا أن يجد وقتاً للتفكير، وكلّما عنّت له لحظة يفكر فيها، فأسعفته قريحته بالأسئلة المشروعة، يردعه الأمير بأن يأمره بالصلاة والاستغفار، ومراجعة أوراده وواجباته، فيكتشف أنّه لم يؤدها بحسب أوامر الأمير، الأمر الطبيعي الفطري الذي حدّثنا عنه صلّى الله عليه وسلّم في قوله: “روّحوا القلب ساعة بعد ساعة، فإنّ القلوب تملّ”، حينئذ يتّهم الشخص نفسه بالتقصير، ويعزو تلك الأسئلة لهواجس الشيطان والنفس والهوى، التي تقوت عليه؛ لأنّه فرّط في واجباته، فلا يلبث أن يعود سيرته الأولى، إلى كهوف الطقوس، تاركاً الأسئلة والأفكار، وهكذا دواليك.
الإغراق في الطقوس يضمن ولاء العضو للقيادة من جهة، ويضمن صورة ذهنية للجماعة لدى الناس، بأنهم قوم صالحون، يؤدّون الشعائر أفضل منهم جميعاً، وهكذا كان الخوارج يصلّون ويقتلون بالخشوع نفسه، ويردع وعي البسطاء عن اتهام هؤلاء، أو تصديق ما ينشر عنهم في الإعلام.
ولا شيء يؤذي قيادات تلك الجماعات مثل ما يؤذيهم أن تسجل واقعة لأحد عناصرهم أو قياداتهم بمخالفة أخلاقية؛ فهي تخدش الصورة التي يحرصون على تسويقها عن أنفسهم؛ لذا قد تلجأ الجماعة إلى تنفيذ أحكام قاسية بحقّ من يتورط منهم في جرائم أخلاقية وتكشف، وقد تحرص بعض الجماعات على إسدال ستار من الكتمان، والمبالغة في استعباد العضو من خلال هذا الكتمان.
نقلاً عن حفريات