ألون بن مئير
لمنع الدكتاتورية الزاحفة والتفكك الكامل للديمقراطية الإسرائيلية، سيكون من الضروري ليس فقط الحفاظ على استقلال القضاء ولكن احتضان الركائز المركزية الأخرى التي تقوم عليها الديمقراطية.
إن الاضطراب الاجتماعي والسياسي في إسرائيل والذي يتجلى في العداء المتفشي وانعدام الثقة والازدراء بين القوميين المتدينين واليهود الليبراليين العلمانيين يمزق البلاد. إن تصميم حكومة بنيامين نتنياهو على إخضاع القضاء لأهواء المسؤولين المنتخبين لا يقوض استقلال القضاء فحسب، بل إنه كشف أيضًا عن أوجه القصور الأخرى في ديمقراطية إسرائيل التي تؤدي إلى تفاقم الانقسام بين المعسكرين ودفع البلاد إلى نقطة اللاعودة.
ولمنع إسرائيل من التدمير الذاتي، يجب ألا يكتفي المتظاهرون الذين تدفقوا بإصرار وبلا هوادة إلى الشوارع بمئات الآلاف للاحتجاج على ما تسمى بـ”الإصلاحات” القضائية بمجرد استعادة استقلال القضاء.
يوفر الصراع حول هذه “الإصلاحات” فرصة تاريخية لفحص وتصحيح كل جانب من جوانب ديمقراطية إسرائيل التي تعرضت للخطر منذ يوم إنشائها. وبغض النظر عن مدى صعوبة مثل هذا العمل، من الضروري الشروع فيه لمنع الهجمات المستقبلية على ديمقراطية إسرائيل من خلال المستبدين الطموحين مع ضمان استدامتها للأجيال القادمة.
◙ يجب على المتظاهرين الآن الاستعداد بشكل مضاعف للجوء إلى أي وسيلة سلمية لإحباط المزيد من “الإصلاحات” القضائية
مع كلّ المقاصد والأغراض، فإن المعركة على استقلال القضاء قد بدأت للتو. وبالنظر إلى أن الحكومة نجحت في إصدار قانون يلغي “معيار المعقولية” الإسرائيلي الذي سمح للمحكمة العليا بمراجعة وإلغاء سياسات الحكومة التي اعتبرت غير معقولة، يجب على المتظاهرين الشجعان أن يظلوا يقظين وغير متسامحين في كفاحهم من أجل استقلال القضاء. وعندما يستأنف الكنيست جلسته التشريعية في أكتوبر، لا تزال حكومة نتنياهو مصممة على سن قوانين إضافية لإخضاع السلطة القضائية للسلطة التشريعية وإحباط تدخل المحاكم في قضايا انتهاكات حقوق الإنسان، والأهم من ذلك السيطرة على اللجنة التي تعيّن القضاة، بمن في ذلك قضاة المحكمة العليا.
يجب ألا يكون لدى حكومة نتنياهو أي وهم بشأن التداعيات التي ستحدثها إذا أعلنت عن خططها الكارثية، حيث إن بعض عواقب أفعالها السابقة لن تتضاعف إلا إذا رفض نتنياهو وقف تصميمه الشائن لإعادة تشكيل القضاء وتكييفه مع أهواء شركائه المسيانيين، الرجعيين والقوميين المتعصبين.
يجب على المتظاهرين الآن الاستعداد بشكل مضاعف للجوء إلى أي وسيلة سلمية لإحباط المزيد من “الإصلاحات” القضائية. وهذا يشمل التجمعات والمظاهرات ووقف العمل والعصيان المدني والإضرابات العامة. يجب أن يستعدوا لهذه الأعمال السلمية بشفافية حتى لا يتركوا أي شك في أذهان نتنياهو وزملائه في أن المعركة الأولية حول “الإصلاح” كان بروفة لما قد يأتي، وأنه يمكن أن يشل الدولة تمامًا إذا لم تلتفت الحكومة إلى ندائهم.
إحدى الركائز الأساسية الأخرى للديمقراطية هي الفصل بين الدولة والدين وهو الأمر الذي لم يكن كذلك منذ يوم تأسيس دولة إسرائيل في عام 1948. وفي حين أن دافيد بن غوريون الأب المؤسس لإسرائيل الحديثة ورئيس الوزراء الأول، منح سلطة غير مبررة إلى المؤسسات الحاخامية من أجل إظهار الوحدة معتقدا أن “اليهودية الليبرالية” ستنتصر في النهاية، حدث العكس. زادت الأحزاب الدينية ومؤسسات الدولة من سلطتها وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من معظم الحكومات الائتلافية الإسرائيلية وأكثر المؤيدين حماسة للمستوطنات.
السؤال هو، بالنظر إلى الطبيعة العلمانية المفترضة للديمقراطية الإسرائيلية، لماذا يجب السماح للمؤسسات الحاخامية بإدارة حياة اليهود الليبراليين في ما يتعلق بالزواج والطلاق والختان ومراسم “الميتزفة” وما إلى ذلك، مع تقييد أنشطة الحكومة في يوم السبت؟
هذا يتعارض تمامًا مع جوهر الديمقراطية التي تستمد قوتها الأخلاقية وشرعيتها من الاستقلال الذاتي الفردي، حيث يجب أن يكون الناس قادرين على ممارسة تقرير المصير والسيطرة على حياتهم الخاصة وأن يتم منحهم حقوقًا متساوية وكذلك قبول التزامات ومسؤوليات متساوية.
وكما لاحظ لورنس أوفرمير بقوله “إن الفصل بين الكنيسة والدولة يحمي الناس المنتمين إلى جميع الأديان ومن لا دين لهم. لا ينبغي أن يكون أي دين قادرًا على ممارسة السيطرة على الحكومة وبالتالي إملاء لاهوته على أي مجموعة مختلفة من المواطنين الأحرار”.
وبالتالي، لا ينبغي السماح لليهود الليبراليين ولا للطائفة الحسيدية ولا المتطرفين الدينيين بانتهاك حق بعضهم البعض في العيش على النحو الذي يرونه مناسبًا، وهو بالضبط ما تدعو إليه الديمقراطية عندما يتعلق الأمر بالفصل بين الدولة والدين.
ومع ذلك، فإن كل جانب عليه التزامات/مسؤوليات تجاه الدولة للوفاء بها أيضًا، ولهذا السبب لا ينبغي إعفاء الطائفة الدينية في إسرائيل من الوفاء بهذه الالتزامات كما هو الحال في الوقت الحاضر متهربين من الخدمة العسكرية لصالح دراسة التوراة. هذا أيضًا يتعارض مع الديمقراطية، عندما لا يتقاسم المواطنون عبء حماية الأمة بالتساوي.
ينبغي على المجتمع اليهودي الليبرالي الذي هو المحرك وراء الاقتصاد الإسرائيلي أن يصر الآن على سنّ قانون أساسي جديد وألا يهدأ أبدًا حتى يتم سن قانون أساسي جديد يقنّن الفصل بين الدولة والدين الذي من شأنه أن يفصل الإسرائيليين العلمانيين عن العقيدة الدينية التي غالبًا ما تنتهك حياتهم الخاصة. وينبغي أن يشترط القانون أيضًا أن يُطلب من الإسرائيليين الملتزمين الذين لا يريدون الخدمة في الجيش لأسباب دينية، أن يقوموا بدلا من ذلك بخدمة مجتمعية لمدة عامين لخدمة الأمة، فقط بصفة مختلفة عن صفة الجنود. لن يفيد هذا المجتمعات التي تحتاج إلى مثل هذه الخدمات فحسب، بل إنه يتفق مع القيم اليهودية لتقديم المساعدة للمحتاجين وسيسمح أيضًا لهؤلاء اليهود الأرثوذكس الشباب باكتساب مهارات مهنية معينة يمكنهم استخدامها لكسب الرزق إذا ما أرادوا ذلك.
إنهاء الاحتلال شرط لا غنى عنه للحفاظ على ديمقراطية إسرائيل. في الواقع، طالما أن إسرائيل لا تزال قوة احتلال وتطبق مجموعتين من القوانين في الضفة الغربية، إحداهما للإسرائيليين بمن في ذلك المستوطنين، ومجموعة أخرى من القوانين العسكرية التي تحكم المجتمع الفلسطيني، فإن إسرائيل ليست ولن تكون أبدًا ديمقراطية حقيقية.
قامت الحكومات اليمينية المتعاقبة بتضليل وغسل أدمغة الجمهور الإسرائيلي بشكل منهجي لتبرير الاحتلال على أساس الأمن القومي. لقد كانوا يصورون الفلسطينيين بشكل منهجي على أنهم عدو لا يمكن إصلاحه، بينما يصفون الاحتلال بأنه مركزي لإبقاء الفلسطينيين في مأزق ومنعهم من إقامة دولة مستقلة خاصة بهم.
علاوة على ذلك، دأبت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على الترويج لفكرة أن الفلسطينيين عازمون على تدمير إسرائيل حتى لو أقاموا دولتهم الخاصة، هذا في حين أنها تقوم بتطبيع احتلال الضفة الغربية كما لو كانت مجرد امتداد لإسرائيل نفسها.
ثمانون في المئة من الإسرائيليين و92 في المئة من الفلسطينيين ولدوا بعد الاحتلال عام 1967. ويؤدي الاحتلال بشكل خطير إلى تآكل مكانة إسرائيل الأخلاقية ونسيجها الاجتماعي بغض النظر عن نوع الروايات الملفّقة التي تُنسج حوله. إنه ليس مدمرا فقط للفلسطينيين ويحرض على التشدد والعنف الذي لا نهاية له، بل إنه قد غذى تصاعدًا في معاداة السامية حيث يرتبط الاحتلال الوحشي باليهود، كما نشهد الآن. من المؤكد أن الاحتلال الإسرائيلي منحرف منطقيًا ويؤدي إلى نتائج عكسية سياسيًا ومضللًا من منظور الأمن القومي.
وتدعو الحكومة الإسرائيلية الحالية علانية إلى ضم الضفة الغربية، الأمر الذي لا يسخر من ديمقراطية إسرائيل فحسب، بل يترك الفلسطينيين بلا خيار آخر سوى المقاومة العنيفة. والواقع أن الاحتلال والطريقة التي تعامل بها إسرائيل الفلسطينيين هي فصل عنصري بالمعنى الكامل للكلمة. يجب على العديد من الإسرائيليين الذين يحاربون من أجل الحفاظ على استقلال القضاء أن يقاتلوا بنفس القوة والمثابرة والالتزام لإنهاء الاحتلال إذا كانوا يريدون حقًا أن تسود ديمقراطية حقيقية لأجيال قادمة.
ولتحقيق هذه الغاية، يجب أن تظل الحكومة تحت ضغط شعبي لا هوادة فيه لخلق مسار من شأنه أن يؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة في سياق كونفدرالية إسرائيلية – فلسطينية – أردنية.
أحد الأسباب الكامنة وراء الأزمة القضائية هو أن إسرائيل ليس لديها دستور مكتوب، لاسيما الدستور الذي يتطلب أغلبية ساحقة (ثلثي الأصوات) في الكنيست لتعديل أي قانون أساسي ومنع أي تعديلات بأغلبية بسيطة، كما كانت حالة مشروع قانون “المعقولية” الذي تم تمريره بأغلبية ضئيلة من 64 صوتا من 120.
تفتقر ديمقراطية إسرائيل بصيغتها الحالية إلى الضمانات الضرورية ويمكن التلاعب بها لتتماشى مع الميول الأيديولوجية أو الدينية للحكومة في أي وقت. يجب أن يرتكز الدستور على أحكام تأسيسية لا بد من التوصل إلى توافق بشأنها.
ومع الأخذ في الاعتبار تنوع الآراء والأيديولوجيات والمعتقدات الدينية والميول السياسية والرؤى المختلفة حول مستقبل إسرائيل، سيكون من الصعب للغاية التوصل إلى إجماع حول إنشاء دستور. ومع ذلك، يمكن للقوانين الأساسية العديدة في إسرائيل أن تشكل الأساس لدستور يمكن البناء عليه. وتحقيقا لهذه الغاية، ينبغي لممثلي جميع الأحزاب السياسية الحالية أن يجتمعوا على أساس منتظم وأن يلتزموا، منذ البداية، بمواصلة العمل على صياغة دستور حتى يتوصلوا إلى توافق في الآراء.
من الواضح أن بعض الأحكام الأساسية للدستور يجب أن تتضمن استقلال القضاء، الفصل بين الدين والدولة، حقوق الإنسان الشاملة بغض النظر عن العرق أو اللون أو الجنس أو المنشأ أو الدين، المساواة أمام القانون، حرية التعبير والصحافة، انتخابات حرة ونزيهة وتعريفا واضحا للصلاحيات القانونية للحكومة، والتزاماتها تجاه المواطنين، وكذلك العلاقة بين الجيش والحكومة. وفي نهاية المطاف، سيوفر الدستور الذي يشمل جميع الأحكام المذكورة أعلاه الضمانات اللازمة لحماية الديمقراطية والحفاظ عليها.
يمكن قول الكثير عن عدم كفاءة وتعقيدات النظام الانتخابي الإسرائيلي. الانتخابات الإسرائيلية نزيهة وحرة إلى حد كبير ولكن مع ذلك هناك حاجة إلى إصلاح جوهري. ينبغي أن تهدف أي إصلاحات إلى تقليص عدد الأحزاب السياسية من خلال رفع العتبة الانتخابية من 3.25 إلى ربما 7 أو 8 في المئة. سيؤدي هذا التغيير وحده إلى إجبار الأحزاب الأصغر التي تشترك تقريبًا في ميول أيديولوجية وسياسية مماثلة على الاندماج وإنشاء حزب أكبر، الأمر الذي سيساعد أيضًا في تقليل الاستقطاب.
ولكن الأهم من ذلك، أنه سيمنع الأحزاب الصغيرة من أن تكون “صانعة ملوك” وتتمتع بسلطة كبيرة لتشكيل الحكومة وكذلك التعجيل بانهيارها إذا لم تتم تلبية مطالبهم. ومع وجود عدد أقل من الأحزاب سيحصل كل حزب بشكل طبيعي على عدد أكبر من المقاعد وسيكون قادرًا على تشكيل حكومة ائتلافية دون الحاجة إلى حزب مكون من 4 أو 5 أعضاء فقط في الكنيست والذي في ظل الهيكلية الحالية يجعل الحكومة رهينة للمطالب الضيقة لهذه الأحزاب القزمة والتي تخدم فقط المصلحة الوحيدة لمثل هذه الأحزاب، حتى على حساب مصالح الأمة.
علاوة على ذلك، فكلما قل عدد الأحزاب السياسية في أي حكومة ائتلافية، سيتعين تقديم تنازلات أقل لتجنب تسوية على أساس القواسم المشتركة الدنيا للتوصل إلى توافق في الآراء بشأن أي سياسة. سيسمح هذا التغيير وحده لمعظم الحكومات بإكمال ولاياتها التي تبلغ مدتها أربع سنوات ومنع تكرار الانتخابات، فخلال السنوات الأربع الماضية مرت البلاد بخمس انتخابات، وهو أمر سخيف على أقل تقدير. ليس هناك شك في أن هذا التغيير وحده سيحسن بشكل جذري عمل الحكومة ويعزز دعائمها الديمقراطية.
ألون بن مئير
صحفي أميركي
المصدر العرب اللندنية