سامي أبو داود
كاتب أردني
هناك مغالطة شائعة حول التدين في إيران، تتمثل في أنها مهد للتشيع منذ الفتح الإسلامي لها؛ وهذه المقولة ليست دقيقة تاريخياً، فقد كانت إيران ذات أغلبية سنيّة، تحت حكم أسر وسلالات تركمانية وعربية سنيّة، باستثناء بعض الفترات التي سيطرت فيها بعض الأسر الشيعية على الحكم، مع بقاء الأغلبية على مذهبها السنّي، وكان العرق التركي والمغولي أبرز الأعراق المسلمة التي هيمنت على بلاد فارس لما يقارب الألف عام تقريباً.
*استمرت سياسية التشييع المذهبي لعموم إيران على امتداد مئة عام تقريباً، تم من خلالها تغيير مذهب بلاد فارس*
فقد خضعت بلاد فارس (إيران) إلى الحكم العربي الإسلامي منذ خلافة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ومن بعد ذلك تحت الحكم الأموي، ومن ثم الحكم العباسي، وعندما أصاب الضعف دولة بني العباس، تعاقبت على حكمها عدة سلالات حكمت باسم الخليفة العباسي الضعيف؛ كالدولة الطاهرية العرب، ودولة الصفارين الفرس، والسامانيين الأكراد، والسلالة الزيارية الفارسية، والأسرة البويهية الفارسية، ومن بعدهم جاءت سلالات تركية: كالغزنويين والغوريين والسلاجقة والخوارزميين، إلى أن جاء المغول فقضوا على دولة السلاجقة والخلافة العباسية.
ومن أشهر الأسر المغولية والتركية التي حكمت إيران: الإيلخانيين، الذين ينحدرون من سلالة هولاكو، وقد اعتنقوا الإسلام العام 1295م، ومن بعدهم جاءت الأسرة التيمورية التركية، وهم من أحفاد تيمور لنك، وعند سقوطهم جاءت أسرة قراقويونلو التركية، ومن ثم جاءت أسرة آق قويونلو التركية التي كانت آخر السلالات القوية التي حكمت إيران قبل مجيء الصفويين التركمان.
*تغيّر وجه إيران الديني والسياسي مما أدّى إلى إحداث شرخ كبير في علاقاتها بمحيطها الإسلامي ذي الأغلبية السنية*
وفي تلك الحقب، كانت إيران في أغلبها سنيّة على المذهب الشافعي في الفروع (الفقه)، كما كان أكثر أعلام المذهب السنّي الأشعري في الأصول (العقيدة) من بلاد فارس؛ كالإيجي، والجرجاني، والتفتازاني، والغزالي، والبغوي، والبيضاوي، وابن فورك، والجويني، والحاكم النيسابوري، والإسفراييني، والشهرستاني، …إلخ، إلى أن جاء الصفويون فغيروا وجهها السنّي إلى الوجه الشيعي الإمامي.
لكن مَن هذه الأسرة التي غيرت تاريخ إيران الديني والسياسي إلى الأبد؟
تنحدر هذه الأسرة من تركمان أردبيل في إقليم أذربيجان، وتنتسب إلى صفي الدين الأردبيلي؛ الذي كان شيخاً لطريقة صوفية سنية شافعية عرفت لاحقاً بالصفوية؛ حيث ذاعت شهرته في إيران والأناضول، ولاقت طريقته قبولاً لدى حكام إيران والأناضول، وبعد وفاته العام 1334م، خلفه ابنه صدر الدين موسى في رئاسة الطريقة الصفوية، ثم خلفه ابنه خواجة علي الذي توفّي العام 1429م، وتسلم من بعده زعامة الطريقة ابنه الشيخ إبراهيم، الذي توفَّي العام 1447م؛ حيث تعدّ فترة إبراهيم آخر فترات اعتناق الأسرة للمذهب السنّي؛ إذ تحولت بعد ذلك إلى المذهب الشيعي على يد ابنه جنيد في العام 1447، الذي أطلق على نفسه لقب “سلطان”، في إشارة إلى رغبته في النفوذ، والملك السياسي، وبذلك تحولت الطريقة الصفوية إلى المذهب الإثنا عشري، وبالتالي لم يكن تشيع الجنيد عن قناعة فكرية، بل كان لأجل توظيف ذلك التمذهب في سبيل طموحه السياسي؛ حيث خاض في سبيل ذلك الحروب الضروس ضدّ أبناء عمومته الأتراك العثمانيين (السنة)، وضد حكام الأقاليم الإيرانية، وقد سمّي أتباعه “القزلباش”؛ أي أصحاب الرؤوس الحمراء، نسبة إلى العمامة الحمراء التي كانوا يعتمرونها فوق رؤوسِهم، إلا أنّ طموحه هذا أدى إلى مقتله في أحد حروبه، وترك من بعده ثلاثة أبناء كان أصغرهم إسماعيل الذي سيؤسس الدولة الصفوية في إيران.
*مع مجيء الثورة الخمينية اصطدمت إيران بمحيطها بسبب السياسية الدينية الطائفية لحكومة الملالي*
تمكن إسماعيل، العام 1500م، من الاستيلاء على تبريز، واتخذها عاصمة له، وفي العام 1502م استولى على كل بلاد فارس وضمّها إلى سلطته، بعد أن كانت مقسمة إلى أقاليم مختلفة؛ حيث قضى على كل الحكومات في هذه الأقاليم، وأسس دولة عرفت بــ “الدولة الصفوية” حكمت إيران لما يزيد عن قرنين من الزمان.
وكان إسماعيل قد أعلن المذهب الشيعي الإثنا عشري الإمامي (الجعفري)، مذهبا رسمياً لدولته العام 1501م، وفرضه على عموم إيران بقوة السلاح، فبطش بسنّة إيران والعراق، وأجبرهم على اعتناق التشيع، وليحقق النجاح في ذلك استقدم علماء شيعة من جبل عامل في لبنان، كان من أشهرهم: علي الكركي، ومحمد بن الحسن الحر العاملي، للإقامة في إيران لتعليم الناس أحكام المذهب الإمامي الإثنا عشري.
*أشعلت الحروب وأذكت الطائفية ملحقة الأذى باتباع المذهب الإثنا عشري في البلاد العربية والإسلامية*
وقد استمرت سياسية التشييع المذهبي لعموم إيران على امتداد مئة عام تقريباً، تم من خلالها تغيير مذهب بلاد فارس، بحيث أصبحت ذات أغلبية شيعية، بعد أن كانت أكثريتها سنية شافعية، بالتالي، تغيّر وجه إيران الديني والسياسي إلى الأبد، مما أدّى إلى إحداث شرخ كبير في علاقات إيران بمحيطها الإسلامي ذي الأغلبية السنية، تعمق أكثر مع مجيء الثورة الخمينية، عام 1979م، التي اصطدمت بمحيطها (العربي والإسلامي)، وذلك بسبب السياسية الدينية الطائفية لحكومة الملالي، التي ادعت الحكم باسم السماء والمقدس، فأوقعت بذلك الشعب الإيراني في أتون العداء والحرب مع جيرانه، مستخدمة السلاح الأيديولوجي المذهبي، الذي أسمته “تصدير الثورة”، فأشعلت الحروب المسلحة عسكرياً، وأذكت الطائفية المذهبية ملحقة الأذى باتباع المذهب الإثنا عشري، في البلاد العربية والإسلامية، من خلال أيديولوجية وجوب الولاء للولي الفقيه الذي ينوب عن إمام الزمان (الإمام الغائب)، وهذا ما رتب عليهم ضرورة تغليب الانتماء المذهبي على الولاء للوطن.
نقلاً عن حفريات