أحمد بان
كاتب مصري
رغم كلّ ما نشر وينشر، عن جماعة الإخوان المسلمين؛ التي أثارت جدلاً واسعاً، منذ نشأتها حتى اليوم، إلا أنّ ما تسرب من معلومات عن طريقة اختيار قياداتها قليل.
الجماعة التي أسسها حسن البنا في نهاية العشرينيات، وأحاط بظروف وبواعث تأسيسها الكثير من الغموض، حاولت أن تحصر مهمّتها، بحسب دعايتها، باستعادة الخلافة الإسلامية، واستعادة ما سمّاه حسن البنا “الكيان الدولي للأمة الإسلامية” عبر التربية والتزكية، قبل أن ينتقل عام 1938 إلى العمل السياسي والعسكري معاً، مع إنشاء النظام الخاص عام 1940.
لم تكن فكرة تشكيل الهيكل القيادي مشكلة في ظلّ وجود حسن البنا، الذي لم يكن يتمتع بكاريزما في نفوس الأعضاء فحسب، بل تمتّع بمهارات كبيرة مقارنة بعمره، مكّنته من صياغة لوائح تنظيمية جعلته القيّم على التنظيم بشكل كامل؛ فهو الذي يعين أعضاء الهيئة التأسيسية التي تحولت لاحقاً إلى مجلس شورى، وهو الذي يعين أعضاء مكتب الإرشاد وأعضاء المكاتب الإدارية والمناطق والشعب من أهل الثقة عنده، وهو رئيس الجماعة ورئيس مجلس الشورى الذي يفترض أن يراقب أداء مكتب إرشاد هو على رأسه أيضاً.
تحسّب حسن البنا، لغيابه عن سدة القيادة، فوضع لوائح تنظم اختيار الهيكل القيادي داخل الجماعة، بما يضمن عدم مرور أيّة شخصيات لا تتمتع بالمواصفات التي يراها لازمة للنجاح، في تنظيم عسكري يعتمد صيغة السمع والطاعة، ولا يقبل الحوار أو النقاش فيما يخص تعليمات القيادة المعصومة لديه.
وحرص البنا على أن تنظم عملية الاختيار المبرمجة، تعليمات شفهية يتداولها عبر دائرة ضيقة من خلصائه، حتى في ظلّ تعليمات قد يطلع عليها الجميع في شكل لوائح مكتوبة، وفي كلّ الأحوال؛ تبقى التعليمات الشفيهة هي الأمضى أثراً في اختيار قيادات التنظيم، المدهش أنّه لا يمر إلى مراحل العضوية إلا من ترضى عنه تلك الدائرة الخاصة، التي ظلت تتوارث تلك التعليمات الشفهية السرية الغامضة التي قد يجلي هذا المقال بعض غموضها.
تقول اللائحة عن شروط العضوية، في المادة (4)، من النظام الأساسي المكتوب:
“يقضي المرشح لعضوية الجماعة مدة سنة، على الأقل، تحت الاختبار، فإذا ثبت قيامه بواجبات العضوية مع معرفته بمقاصد الدعوة ووسائلها، وتعهد بأن يناصرها، ويحترم نظامها، ويعمل على تحقيق أغراضها، ثم وافقت الجهة المسؤولة عنه على قبوله عضواً في الجماعة، فيصبح أخاً منتظماً لمدة ثلاثة أعوام”.
تقول اللائحة هنا؛ إنّه يبقى تحت الاختبار مدة عام، على الأقل، فإذا ثبت قيامه بواجبات العضوية، دون أن تحدد بوضوح ما هي واجبات العضوية، التي تبقى إطاراً فضفاضاً تحدّد ملامحه لجنة تعرف الشروط الشفهية للعضوية، والتي تتلخص في كون العضو طيّعاً لا يحرص على الأسئلة ويفوض القيادة في كل شيء، ويثق بها ثقة عمياء ومطلقة، وهو ما يضمن مروره للمرحلة التالية من العضوية التي تحددها الفقرة الثانية من نفس القاعدة، والتي تقول: “إذا ثبت خلال الأعوام الثلاثة، آنفة الذكر، قيام الأخ بواجبات عضويته، فللجهة المسؤولة أن تقبله أخاً عاملاً على أن يؤدّي البيعة للمرشد أو من ينوب عنه”.
لو تحدثت إلى عضو سابق، أو حالي، أمضى أعواماً طويلة في الجماعة؛ فقد لا تتفاجأ بأنّه لم يمر من تلك المرحلة إلى مرحلة يبايع فيها المرشد أو من ينوب عنه، وبالتالي يبقى في عين التنظيم مجرد جندي عادي يصلح وقوداً لحركة الجماعة في أيّة ساحة تضعه فيها، معتقداً أنّه عضو كامل العضوية، رغم أنّ التنظيم لا يراه أبداً كامل العضوية، بالنظر إلى أنه لم تتحقق فيه شروط العضوية الغامضة التي تدور في العادة حول الطاعة العمياء والثقة المطلقة بالقيادة، التي يجب أن يراها العضو مؤيدة من السماء، ولا تحتاج سوى لدعاء المخلصين، الذين يحرص على أن يكون واحداً منهم، عبر الدعاء للقيادة الملهمة.
يحكي د. محمود جامع، في كتابه “عرفت السادات”؛ أنّ الأسرة من الإخوان التي كانت تضمّ جمال عبدالناصر، وكان وقتها برتبة يوزباشي، كان رئيسها الملازم أول صلاح خليفة، وأثار هذا الوضع حرجاً بالغاً في نفس عبدالناصر؛ إذ كيف يكون رئيسه ملازم أول، وهو يوزباشي أكبر منه رتبة، فاشتكى لحسن البنا، فقال له: يا عبدالناصر، هناك محكمة في إمبابة اذهب إليها، وستجد أمامها رجلاً يجلس وأمامه منضدة صغيرة، وهو عرضحالجي (كاتب الاستدعاءات)، يسمى محمد رستم، وهو نقيب أسرة في النظام الخاص، ومن أعضائها، تحت رئاسته، وهو عرضحالجي، الدكتور عبدالعزيز كامل، والدكتور حسن الباشا، وهم أساتذة في الجامعة، لكن هذا العرضحالجي دارس للدعوة، عميق الإيمان، واعٍ تمام الوعي لرسالة الإسلام بفهم راسخ عميق”.
تلخص تلك الحكاية ما أشرنا إليه من القواعد الشفهية، التي ظلت تحدد طريقة اختيار القيادات في الجماعة، سواء في حياة حسن البنا، أو فيما رسمه من خطوط بعد موته، وحرصت قيادات الإخوان، من النظام الخاص أو القطبيين، الذين ورثوا القيادة، على تكريسها كقواعد حركية لا تقبل النقض أو التعديل.
يزول اندهاشنا عندما نرى محمد بديع مرشداً للإخوان، في 2010، متخطياً كلّ القيادات الطبيعية التي يعرفها الإخوان وغيرهم، في ذلك العام؛ الذي شهد تسليم رجال النظام الخاص السلطة داخل الجماعة لرجال التنظيم القطبي الذي كان بديع أكثرهم مكراً.
وقد يزول بعض اندهاشنا أيضاً؛ عندما نرى محمد مرسي مرشح الجماعة لرئاسة مصر، أو هشام قنديل رئيساً للوزراء، أو غيرهما من الشخصيات، التي تمّ توزيرها استناداً للمعايير السرية نفسها في تلك الجماعة السرية، التي وضعت أحد أعضائها، ومهنته مهندس مستشار أمني بالرئاسة، وهو الذي لم يدرس حتى دورة تخصصية في الأمن، ولم ينخرط في سلك الشرطة أو الجيش، أو مدرس المرحلة الابتدائية الذي تمّ تعيينه رئيساً لأحد أهم أحياء القاهرة.
هذا التنظيم السري؛ الذي درج على القفز على قواعد العلم والمنطق في سلوكه، محتكماً إلى تعليمات قيادات التنظيم، قاد مصر في أحرج اللحظات التاريخية، متصوراً أنّ هذا المنهج سيقود الجماعة للتمكين، لكن نفس تلك القواعد السرية هي التي أطاحت بالتنظيم، أكثر مما أطاحت به غضبة الجماهير والمؤسسات.
ففي 30 حزيران (يونيو)، ورغم حالة الانكشاف الكامل لهذا التنظيم المتشدد، إلا أنّ حالة الإنكار المرضي ما تزال قادرة، عبر دخان المظلومية الكثيف الذي تطلقه، على تعطيل عقل الأعضاء، ومن تبقى من قياداتها، التي ما تزال تراهن على الكمون والانتظار، غير مدركة أنّ التاريخ تجاوزهم، ولم تعد أيّة وسيلة قادرة على إعادة تعويمهم من جديد.
نقلاً عن حفريات