إبراهيم غرايبة
كاتب أردني
تبدو مفاهيم ومصطلحات من قبيل الوسطية والاعتدال والتطرف واضحة ومحدّدة (تقريباً) في الثقافة الغربية، لكن لا يمكن اقتباسها في الشرق إلا باقتباس الفلسفة والفكرة المنشئة لها؛ إذ تبدو لدى فهمها في الخطاب الإسلامي السائد أو المتّبع مختلفة اختلافاً كبيراً؛ وتحتاج إلى خطاب إسلامي جديد أو مختلف يستوعبها ويطبقها على النحو الذي تعمل فيه في بلاد المنشأ.
مقياس الوسطية والاعتدال والتطرف هو الاجتهاد الإنساني السائد أو الغالب، أو العقد الاجتماعي المنظِّم لعلاقات الناس ومصالحهم، بمعنى أنّ التطرف هو الاختلاف عن العقد الاجتماعي السائد أو الخروج عليه، والوسطية هي الموقف الوسط بين اتجاهين أو فكرتين يجمع بينهما، وإن كان مستقلاً أو مختلفاً عنهما، وفي ذلك ثمّة افتراضات عدة أساسية وحاكمة تعمل في الغرب ولا تعمل في الشرق العربي والإسلامي، أو لم تعمل بعد.
يلتبس الفهم والتطبيق للمفاهيم على نحو يشبه استيراد السيارات من غير طرق أو قواعد للقيادة والمرور. الصواب في العقد الاجتماعي فكرة إنسانية نسبية ليست يقيناً أو حقاً نزل من السماء. لكنّ الصواب هو الاجتهاد الإنساني في فهم الكمال وتمثّله في لحظة معينة. هو صواب ما دام لم تغيّر الغالبية رأيها أو موقفها، الحال أنّ الصواب اختراع، وليس اكتشافاً.
لكن في غياب العقد الاجتماعي الإنساني ليس ثمّة وسط أو تطرف، هناك صواب مطلق وخطأ مطلق، الصواب هو الحق الذي نزل من السماء، وما سواه باطل، وليس بعد الحق إلا الضلال، ويكون الاختلاف والصراع على الحق، أو بين الحق والباطل، حيث الحق هو الصواب الذي يعتقد به أصحابه ومؤيدوه، ولا يمكن وصف هذا الحق بالاعتدال أو التطرف أو الوسطية، هو الصواب فقط، ويتبعه المؤمنون على أنّه الحق الذي نزل من السماء، والواجب اتباعه.
لذلك، فإنّه لا يمكن الحديث عن تطرف واعتدال في غياب العقد الاجتماعي الإنساني. لا تصلح هذه المفاهيم والأفكار إلا في أنسنة الحكم والعلاقات والأفكار، أمّا في ظل الاعتقاد بالصواب الإلهي والشامل والكامل والذي يصلح لكل زمان ومكان، وهو ما تؤمن به في عالم العرب والمسلمين الحكومات والمعارضات على السواء؛ فلا فرق في ذلك بين الجماعات وبين المؤسسات الدينية الرسمية وكليات الشريعة في الجامعات ووزراء الأوقاف، فالخلاف أو الصراع ليس بين تطرّف واعتدال، لكنّه بين الحق والضلال، أو الإيمان والكفر، وفي أقلّ وصف خطورة بين الصواب والخطأ.
في عالم المنشأ الإنساني لمفاهيم الوسطية والاعتدال والتطرف؛ الوسطية بمعنى الوسط بين المواقف والاتجاهات ليست هي الاعتدال أو التسامح بالضرورة، أو ليسا (الوسطية والاعتدال) دائماً شيئاً واحداً. أمّا إذا كان الوسط بمعنى الأفضل أو الصواب كما يُرى في عالم العرب والمسلمين، فقد يكون ذلك في بعض الأحيان تطرفاً بمعنى الاختلاف عن السائد أو الغالبية، وأمّا الاعتدال، إن كان يعني الصواب أو العدل، فلا يعني ذلك بالضرورة أنّه وسط بين أمرين أو أمور واتجاهات عدة. هو في اللغة العربية من الصواب والاستقامة، وفي العقد الاجتماعي هو الموقف أو الفكر السائد، الذي حظي بتأييد الأغلبية من خلال مؤسسات ومنظمات تمثل الناس بعدالة وكفاءة، وفي ذلك فإنّ الصواب قد تتبدّل مواضعه وحالاته بين اليمين أو اليسار، والحماسة أو الانسحاب أو التردد أو الإقدام أو المغامرة أو التحفّظ. لا يحكمنا في ذلك إلا العقد الاجتماعي أو اتجاه الغالبية في اللحظة التي نلتمس رأيها. وأمّا في غياب العقد الاجتماعي، فإنّ الصواب أو الاعتدال هو الحق الذي نزل من السماء، والسماء وحدها تقول لنا ما الصواب، ولن يعرف الصواب أو يحدده واقعيًاً سوى الجماعة المهيمنة.
وكما أنّ التطرف ملتبس ويصعب تعريفه؛ فإنّ الاعتدال بطبيعة الحال سيكون ملتبساً وعصيّاً على التعريف والوضوح. يجب الاعتراف بأنّنا لا نملك خطاباً دينياً بديلاً للخطاب الديني المسؤول عن الكراهية والعنف والتطرف. الحال أنّ الإصلاحيين والمعتدلين يملكون وضوحاً في الأهداف ورؤية النهايات المأمولة، لكنّهم لا يملكون إجابة عملية عن السؤال البديهي والأساسي “كيف؟” وربما لا يكون ثمّة خيار عملي بديل سوى الانسحاب الرسمي من الشأن الديني وتعويمه وتركه للأفراد والمجتمعات، برغم صحة الاعتراض على ذلك باحتمالات الفوضى والتطرف، لكنّ التورط في الدور الديني للدولة لم يكن أفضل حالاً، وتستطيع السلطات على أيّ حال في فترة زمنية معقولة أن تشجع حراكاً مجتمعيّاً مستقلاً عنها لخطاب ديني عقلاني وفردي يلائم المتدينين، ويخدم السلم الاجتماعي وأهداف الدول والمجتمعات والأفراد.
إنّ الحديث عن العلاقة بين الأفكار والمعتقدات والنصوص الدينية والتعليمية وبين الاعتدال أو الكراهية والتطرف؛ ليس مشغولاً بالأوامر والنواهي والدعوات والفتاوى لأجل الاعتدال أو التطرف، الكراهية أو المحبة، التعصب أو التقبل، لكن تتشكل منظومة الاعتدال أو التطرف والكراهية في البيئة الفكرية والتعليمية والثقافية على نحو أقرب إلى المنهج الخفي. الحال أنّ مواجهة التطرف والكراهية لن تكون عمليات مباشرة لإحلال أفكار أو نصوص محل أخرى.
الاعتدال منظومة واسعة، بعضها واضح وأكثرها خفي مستمدة من “النسبية وعدم اليقين” التي تشكل العقل الحرّ والناقد والمتقبل للآراء والأفكار والمستعد للتغيير والمراجعة. لذلك؛ فإنّ أفضل النصوص والأفكار المعتدلة والتنويرية إذا قدمت على أساس من الوصاية واحتكار الصواب والتعصب؛ تنشئ أيضاً الكراهية والتطرف. فلا فائدة أو أهمية لأن تُفرض أجمل الأفكار والمعاني على الناس فرضاً، أو تُلقن للتلاميذ بوصاية على عقولهم وضمائرهم وأرواحهم؛ الاعتدال -ببساطة- هو محصلة للحريات والإبداع.
ويمكن للتوضيح تقديم أمثلة كيف تتشكل الكراهية (ويتبعها التحريض والتعصب والعنف بطبيعة الحال) في الأفكار والثقافة والمناهج: الامتلاء بالشعور بالصواب والحق، وأنّ الآخر مخطئ وباطل، وعدم القدرة على إدراك وملاحظة معقولية أو احتمال معقولية الآخر، وخطأ أو احتمال خطأ الذات. إذ ليس المطلوب أن يقدّم الصواب والاعتدال للناس على أنّهما كذلك، لكن في ظل الاعتقاد بأنّ أحداً لا يحتكر الصواب ولا يعرفه على وجه اليقين. وبذلك تظل جميع الأفكار والمعتقدات محتملة الصواب، وتظل جميع الأفكار والمعتقدات قابلة للمراجعة واحتمال التغيير، والخلط بين الأفكار والمعتقدات وبين تطبيقها على الآخرين. فأن يعتقد أحد اعتقاداً أو فكرة، فهذا أمر يخصه وحده، ولا يحق لأحد أن يُلزم غيره باعتقاد أو يمنعه منه، ولا أن يطبق التعاليم والمفاهيم التي يؤمن بها على غيره، لأنّ الأفكار والمعتقدات ليست هي القانون، ويبقى الحكم بين الناس هو القوانين والتشريعات، وحين تتعارض أو يفهم تعارض بين الأفكار والمعتقدات وبين التشريعات فالحلّ والحكم للمؤسسات التشريعية والسيادية، وليس بيد كل مؤمن بفكرة يرى أنّه ملزم بتطبيقها على غيره، وغيره يعني كل من عداه، بمن في ذلك الأبناء والتلاميذ.
صواب أو خطأ فكرة أو اعتقاد لا يُغيّر شيئاً في هوية الناس، ولا في الموقف منهم والنظر إليهم؛ فالإنسان مستقل بكيانه واعتباره عن أفكاره ومعتقداته، هو إنسان أوّلاً ومواطن ثانياً، ولا يغير في ذلك شيئاً أفكاره ومعتقداته. الحكم على الناس وتقييمهم وتصنيفهم حسب أفكارهم ومعتقداتهم، ثم بناء المشاعر تجاههم على هذا الأساس، ينشئ بطبيعة الحال حالة الكراهية للآخر، بمن هو المخالف في الفكر والاعتقاد، وينشئ أيضاً الشعور بالتميز والاستعلاء والأفضلية، وببساطة، هذا هو التطرف.
تنشئ مبادئ الاحتساب “الحسبة” المستمدة من فقه وأحكام “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” اعتقاداً بحق كل صاحب فكرة أن يتحرك لفرضها على الناس أو محاسبة الناس على أساسها، من دون اعتبار لاحتمالات الصواب والخطأ لدى الذات أو لدى الآخر، ومن دون اعتبار لدور المؤسسات والقوانين الناظمة لحياة الناس وعلاقاتهم؛ ماذا عن تعدد الأفكار والمفاهيم واختلافها؟ ففي سعي صاحب كل فكرة لتطبيقها على الآخرين ومحاسبتهم على أساسها، يتحول الفهم الديني والاجتماعي إلى صراع وعنف اجتماعي، يمتد إلى الأسر والزملاء والأصدقاء والجيران والأقارب، وخاصة مع مفاهيم وأفكار ومقولات من دون تمييز في أهميتها وصحتها ومستواها ومعناها تشجع على الغضب والمفاصلة والكراهية بسبب الاختلاف في الرأي والفكر والمعتقدات.
يضاف إلى ذلك تقديس التراث والتاريخ والتجارب الحضارية والفقهية بلا تمييز بين الأصول والفروع واحتمال الخطأ، أو من دون تمييز بين الدين والخطاب الديني وبين النصوص وفهمها ومعانيها المتعددة المحتملة. الأكثر أهمية من تعليم الاعتدال والتنوير هو تعلم مظنة تعدد الصواب واحتمال الخطأ دائماً.
نقلاً عن حفريات