هدى الخولي
باحثة مصرية
كما نعلم، بدأ أستخدام مصطلح الإسلام السياسي فى أربعينيات القرن الماضي في أوروبا، واصفاً الحركات الإسلامية المناهضة للاستعمار، ونعرف أيضاً أنّ الإسلام السياسي يغطي مساحة كبيرة من الحركات، والطوائف، والقوميات اليسارية واليمينية، تحت مظلته.
وإذا أخذنا في الاعتبار، التحولات التى شهدها هذا التيار خلال وبعد الحرب الباردة، بفضل دعم القوى الغربية، وبعض الدول العربية الغنية بالنفط له، مروراً بدخول الإسلام السياسي إلى مرحلة جديدة في سبعينيات القرن الماضى، بدأت بوفاة جمال عبد الناصر، وما تلى ذلك من تطور لهذا التيار في الثمانينيات والتسعينيات، تزامناً مع استبدال دور الاتحاد السوفيتى في المنطقة، بالدور الأمريكي، ونفوذ بعض دول النفط.
ورصدنا أخيراً المحاولات غير الموفقة، للانخراط في العملية الديمقراطية، والتظاهر بالحداثة تارة، والوسطيّة تارة أخرى، في القرن العشرين؛ حتى وصلنا اليوم إلى صورة لإسلام سياسي لا يحظى بالثقة؛ بعد أن فقد فرصة ثمينة؛ لتحقيق مصالحة بين الإسلام والحداثة العلمانية.
*الطريق الوحيد هو جمع صف المواطنين، وعقد النية الخالصة على الانتقال بالمجتمع العربي- الإسلامى إلى حداثة حقيقية؛ وترسيخ حقيقة أنّ الحداثة لا تشكل خطراً على الإسلام؛ وأنّ الخطر الحقيقى يكمن في التأويلات الضيقة*
أقول إذن، بالنظر إلى تاريخ الإسلام السياسي، ومحطاته المختلفة، أتصور أنّ هناك سؤالاً هاماً حول توضيح وتحديد: أيّ إسلام سياسي نقصد؟ وفي أيّ مرحلة من مراحلة وإرهاصاته لابد أن نقف؟ وهل مازلنا نتحدث عن كيان أيديولوجي واحد؟
لنتفق بداية على حقيقة لا مفر منها؛ مفادها أنّ مصطلح الإسلام السياسي بات مسمى “سيئ السمعة”، ويترادف مع الفشل في الدخول إلى الحداثة، وكل ما تلى ذلك من إخفقات في تجديد الفكر الدينى، ناهيك عن أنّ الإسلاميين تحت غطاء هذا التيار، أصبحوا يشكلون جانباً من المؤامرة الكبرى؛ التي تهدف إلى إعادة تقسيم المنطقة.
قد نتفق أيضاً على أنّ المفهوم الدارج للإسلام السياسي، هو أنّه محاولة خبيثة لتسييس الدين، من قبل جماعات منظمة؛ لإحياء مظاهر “أمة” ترجع إلى القرن السابع الميلادى، بدلاً من تأسيس دولة قانون، والدخول إلى المجتمع الحديث.
وأنّ هذا الاتجاه ببعض تياراته المتشدّدة؛ تسبب في وضع الإسلام نفسه في موضع الإدانة؛ ما دفع قطاعات واسعة في الغرب، إلى الربط بين الإسلام وبين العنف، بل والإرهاب.
ولا داعى للخوض في أسباب تغلغل مفاهيم الإسلام السياسى، في البنية الاجتماعية العربيّة، لكن الغطاء الرئيسي جاء من خلال العمل الخيري، الذي أكسبهم نفوذاً اجتماعياً وشعبياً، مع تراجع دور المنظمات الاجتماعية والمدنية، وعجزها عن القيام بذلك.
الآن، هل هناك طريق للتخلص من سطوة هذه المفاهيم، وتأسيس مفاهيم جديدة؛ للنهوض بالمجتمع الإسلامي- العربي؟
أصبحت أشك في رغبة المثقفين في إحداث تغيير صادق وحقيقى؛ فكما نعلم، فإنّ الحراك يأتي فقط على مستوى الشعارات، وبهدف الشهرة، وتحقيق المكاسب، بالسباحة ضد التيار أو معه!! ونتيجة ذلك، فإنّنا ما زالنا ندور في مجال فكري لم يتغير، منذ الثلاثمئة عام الماضية.
بالتأكيد كان لإدخال مناهج التعليم الحديثة على النمط الأوروبي، تأثير هام في إحراج المؤسسات الدينية التقليدية؛ فقامت بتغييرات سطحية؛ لمواكبة ذلك، وفي الوقت نفسه علت الأصوات التى تحذر من خطورة إدخال التعليم العلمانى إلى المجتمعات الإسلاميّة، وما يصاحب ذلك – حتى يومنا هذا- من شيطنة للنظم السياسية الغربية، التي تقوم على دولة القانون، بل وللثقافة والفن الغربي..الخ
*مصطلح الإسلام السياسي بات مسمى سيئ السمعة، ويترادف مع الفشل في الدخول إلى الحداثة، وكل ما تلى ذلك من إخفقات في تجديد الفكر الديني*
أزعم أنّ المعضلة تكمن في وضع الإسلام منذ قرون طويلة، في إطار غريب عنه؛ ذلك أنّ إطاره الطبيعى هو كونه رسالة سماوية، ألهمت حضارة عظيمة، وأضافت بدورها إلى التراكم المعرفي.
ورغم وجود حركات مخلصة، سعت إلى تخليص الإسلام من تلك الشوائب؛ والعودة به إلى منابعه الأصيلة – منذ الأفغانى ومحمد عبده – لم تكلّل هذه الجهود بالتوفيق، أو تلق انتشاراً، وبقيت بعيدة عن القاعدة العريضة من المسلمين، فكانت حركة للصفوة، وللاستهلاك النخبوى.
أخيراً، ورغم أنّ الإسلام السياسى انحصر، وكأنّه عاد إلى نقطة بدايته في القرن 19؛ فإنّ الهوة أصبحت شاسعة بين العلمانيين والإسلاميين في المجتمعات العربية والإسلامية، فكلاهما ينظر إلى الآخر بعين الشك والارتياب.
الطريق الوحيد هو جمع صف المواطنين، وعقد النية الخالصة على الانتقال بالمجتمع العربي- الإسلامى إلى حداثة حقيقية؛ وترسيخ حقيقة أنّ الحداثة لا تشكل خطراً على الإسلام؛ وأنّ الخطر الحقيقي يكمن في التأويلات الضيقة.
وهذا هو دور المثقف، فهو الضمير الحي للأوطان، ومسؤوليته محددة وواضحة؛ ألا وهي إعادة بناء الفكر العربي بكل تياراته وتجديده؛ تجديداً جوهرياً وليس ظاهريا!!
*أستاذة ورئيسة قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة
نقلاً عن حفريات