كريتر نت – متابعات
تكشف هجمات الحوثيين على الأراضي السعودية عن العديد من نقاط الضعف في مجال الدفاعات الجوية للمملكة التي تحاول معالجتها بشتى الوسائل. كما أن هذه الهجمات أصبحت مضرة بسمعة السعودية كبلد جاذب للاستثمارات والفعاليات الكبرى، وتهدد خطة التحديث السعودية الشاملة «رؤية 2030».
ومنذ أن تولى الأمير محمد بن سلمان منصب ولي العهد في 21 يونيو 2017 اتضح أن السعودية تقف على أعتاب منعطف سياسي وأمني واقتصادي ضخم.
سبق ذلك أن ولي ولي العهد السعودي (آنذاك) كان قد طرح الملامح الأولى للمنعطف في رؤية 2030 التي طرحها لأول مرة في 25 أبريل 2016 خلال جلسة لمجلس الوزراء السعودي.
في ذلك الوقت كانت أسعار النفط آخذة بالتراجع، مما وفر للأمير محمد أن يكسب الآذان داخل الأسرة الحاكمة لأجل شق طريق يهدف إلى تنويع الاقتصاد السعودي وجعله أقل اعتمادًا على النفط، وتطوير البنية التحتية، وتحسين جودة الحياة في المملكة. وفي النهاية، من أجل حماية الاقتصاد السعودي من تقلبات أسعار النفط، وضمان مستقبل مستدام للمملكة.
هذه البداية تبدو متواضعة بمقاييس ما انتهت إليه تلك الرؤية اليوم، لأنها سرعان ما اتسعت حتى بعدما عادت أسعار النفط إلى الارتفاع. فبفضل عناصر أخرى، من قبيل مكانة السعودية الإقليمية والدولية، وعضويتها في مجموعة العشرين، ودورها الحاسم في ضمان استقرار إمدادات النفط، وحاجتها الداخلية إلى مواكبة متطلبات التحديث في مجالات التعليم وتطوير البنية التحتية وتوفير وظائف لجيل جديد، فقد صارت المملكة تنظر إلى نفسها كقوة بحاجة إلى أن تكون مستقلة بدرجة أكبر من الناحية الأمنية، وفي الوقت نفسه، كقوة تمتلك طموحاتها الخاصة، بالاستفادة من مصدر الثروة الوحيد الذي تملكه (النفط)، والذي تعرف أنه مصدر قابل للنضوب في نهاية المطاف.
وبالاستناد إلى ما يقتضيه هذا الطموح، فقد أصبح لزاما، بالنسبة إلى هذه الرؤية، أن تخرج البلاد من دائرة التعقيدات التي تعوق حركة المجتمع. وببساطة، فقد ظهر الأمر على النحو التالي: اقتصاد يتقدم إلى الأمام يحتاج إلى مجتمع يتقدم إلى الأمام أيضا.
تحديات رؤية 2030
الرياض تيقنت تماما أنها بحاجة إلى مقاربات دفاعية جديدة توفر الغطاء المطلوب لطموحات رؤية 2030 وما بعدها
ولي العهد السعودي الشاب كان من طبيعة الأمور أن ينظر إلى مستقبل السعودية في إطار أفق يمتد ليس إلى العام 2030، ولا إلى العام 2050، بوصفهما مرحلتين: الأولى، تأسيسية، والثانية، كنقطة انطلاق جديدة، وإنما إلى ما هو أبعد من ذلك. فحكام المملكة الذين تولوا قيادة دفتها لفترات قصيرة وهم في الغالب في الثمانيات من أعمارهم وضعوا في المقدمة أخيرا رجلا يمكنه أن يتولى هذه الدفة لما لا يقل عن 50 عاما أخرى.
ولكن، كلما اتسعت الطموحات تضاعفت المخاطر. وأبرز هذه المخاطر جسدته إيران. ليس فقط بمشروعها النووي، ولكن أيضا بقدرة الولايات المتحدة على التواطؤ معها أيضا. فالاتفاق الذي تم التوصل إليه في العام 2015 كان ثمرة مفاوضات سرية قدمت الدليل لقيادة المملكة، وللأمير محمد على وجه الخصوص، على أنه لا يستطيع أن يرمي كل أعباء الثقة على الولايات المتحدة التي كانت حتى ذلك الوقت تعد نفسها وكيل الدفاع الرئيسي عن أمن المملكة.
غير الاتفاق النووي، فقد وقعت أحداث أخرى أثبتت لولي العهد السعودي أن الثقة بالولايات المتحدة صفقة خاسرة، من ناحية تلك الأحداث، ولكن من ناحية المستقبل أيضا.
إيران صارت تتفاخر، من تحت أنف إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، بأنها باتت تسيطر على أربع عواصم عربية، بعد أن استولى الحوثيون على صنعاء في 21 سبتمبر 2014، وبعد أن تحولت إدارة السلطة في بغداد إلى شراكة رسمية بين طهران وواشنطن، وبعد أن اندفعت طهران إلى دعم سلطة الرئيس السوري بشار الأسد في دمشق في مواجهة الانتفاضة المسلحة ضده، وبعد أن تمكن حزب الله في لبنان من فرض ميشال عون ليكون رئيسا على مقاس مصالح إيران في 31 أكتوبر 2016.
أحد أهم الدلائل على انهيار ثقة الرياض بواشنطن هو أنها عندما أطلقت عملية “عاصفة الحزم” في 25 مارس 2015 لم تُبلغ بها واشنطن إلا قبل نحو نصف ساعة.
وزاد انعدام الثقة وثوقا عندما هاجمت إيران خريص وبقيق في 14 سبتمبر 2019 بسلسلة من الضربات الصاروخية وبطائرات مسيرة استهدفت المنشآت النفطية التابعة لشركة أرامكو في المنطقتين، من دون أن تتحرك الولايات المتحدة قيد أنملة لردع إيران. بل إن واشنطن أضافت إلى ذلك في ما بعد أنها قررت سحب بطاريات باتريوت في سبتمبر 2021 في إطار ما قالت إنها “مراجعة شاملة لوجودها العسكري في الشرق الأوسط”.
كانت الحرب تجري على أشدها في اليمن. وكان تهديد الحوثي لمواقع الطاقة السعودية جليا. وعلى الرغم من أن أضراره ظلت محدودة، إلا أنه ظل كافيا لكي تعلم الرياض أن اقتصادها النفطي مكشوف للضربات، وأن استقرار صادرات النفط حتى وإن كان يعد أمرا حيويا للاقتصاد العالمي برمته، إلا أن الرياض تيقنت تماما أنها بحاجة إلى مقاربات دفاعية جديدة؛ مقاربات لا توفر الأمن فقط، ولكن توفر الغطاء المطلوب لطموحات رؤية 2030 وما بعدها.
ثلاثة خيارات
رؤية الأمير محمد تعيد بناء كل شيء في السعودية
يقول بلال صعب وهو زميل أول ومدير برنامج الدفاع والأمن في معهد دراسات الشرق الأوسط في ورقة بحث نشرت في 28 أغسطس 2023، إنه “من بين جميع التحديات التي تواجه الرؤية السعودية 2030، قد لا يكون هناك ما هو أكبر من تهديد إيران للأمن القومي السعودي. ولتحقيق النجاح، يجب على المملكة العربية السعودية ليس فقط تعزيز دفاعاتها ضد المزيد من الهجمات الإيرانية والحوثية، ولكن أيضًا إنشاء مستوى من الردع ضد طهران”.
ويضيف “إن أمام الرياض ثلاثة خيارات ردع رئيسية، لا يستبعد بعضها بعضاً: الدبلوماسية، والحماية الخارجية، وقدرات عسكرية (ذاتية) أكثر فعالية”.
ولا تقدم ورقة البحث مقاربة تتوافق مع التحولات التي طرأت على رؤية 2030 من ناحية اتساع طموحاتها، كما لا تناقش بيئة الثقة المتقلبة التي علّمت الرياض ما كانت بحاجة إلى أن تتعلمه وتطوي صفحته مع واشنطن، إلا أنها قدمت قراءة موضوعية حول مدى فاعلية خيارات الردع الثلاثة.
تقول الورقة “إن الردع من خلال الدبلوماسية مفهوم قديم قدم تاريخ الحروب بين الأمم. إنها أداة رخيصة، أو على الأقل أقل كلفة بكثير من الحرب، وإذا تم استخدامها بشكل صحيح، فمن الممكن أن تكون فعالة للغاية. الفكرة بسيطة: من خلال التحدث مع خصمك ومحاولة إدارة أو حل خلافاتك معه من خلال المساومة والتنازلات المتبادلة، فإنك تتجنب الحرب. وبطبيعة الحال، تكمن الحيلة في كيفية التوصل إلى ‘نعم’ عادلة ومستدامة. تُستخدم الدبلوماسية أيضًا لتوصيل معلومات مختلفة إلى الخصم، بما في ذلك قدرة الدولة وتصميمها على القتال إذا تم دفعها إليه”.
ويرى الباحث أن “الرياض ليست هي الطرف الذي يريد الإيرانيون حقاً أن ينتزعوا منه التنازلات الأمنية، لأن قلقهم كان ولا يزال يتمثل في القوة العسكرية الأميركية في المنطقة، تليها إسرائيل، وليس قدرات السعوديين أنفسهم. إنها البصمة الأميركية التي تريد إيران تقليصها وإزالتها بشكل مثالي من المنطقة”. ويستنتج من ذلك أن “هذا التناقض العميق في تصورات التهديد والأهداف بين المملكة العربية السعودية وإيران لا يؤدي إلى إجراء حوار أمني مثمر. وفي غياب التناسق بشأن القضايا ومستوى معين من الضعف المتبادل، فمن الصعب رؤية اختراقات ذات معنى في الحوار السعودي – الإيراني”.
بلال صعب: على الرياض إنشاء مستوى من الردع ضد طهران
وفي الواقع، فإن الرياض تعتقد الآن ولديها ما يكفي من الأدلة على أن “البصمة” الأميركية عديمة الفاعلية من ناحية، وغير جديرة بالثقة من ناحية أخرى، وضارة على مستوى قدرة الدبلوماسية لبناء أرضية صالحة للتعايش والأمن المتبادل من ناحية ثالثة. ولكنها، في الوقت نفسه، ليست في وارد “إزالة” البصمة. وذلك لأسباب لا علاقة لها بإيران. وإنما لأمر يتعلق بآفاق روية 2030 الاقتصادية التي ترمي في واحد من أهم جوانبها إلى توطين 50 في المئة من الصناعات الدفاعية. وهنا يمكن للولايات المتحدة ولشركاتها أن تلعب دورا مهما.
ولا شك أن الرياض لا تريد أن تكون أراضيها منطلقا لهجوم تشنه الولايات المتحدة على إيران، لأي سبب من الأسباب. ولكن ما تعرفه الرياض، هو أن هذا الهجوم لن يقع في جميع الأحوال، مما لا يبرر تحمل تكاليف الافتراضات التي تنشأ عنه.
لقد تعرفت الرياض على إطار آخر لتضع فيه إستراتيجية الردع عن طريق الدبلوماسية هو فلسفة “تصفير المشاكل” التي أطلقتها الإمارات. هذه الفلسفة تراهن على التعاون التنموي والتجارة وتبادل المصالح لتسوية قضايا الخلاف السياسية. وهي ما وجدت فيها الرياض إطارا نافعا في العلاقة ليس مع طهران وحدها، وإنما مع تركيا أيضا.
ولكن الباحث يستنتج على نحو دقيق أنه إذا كانت فرص المملكة العربية السعودية في تأمين اتفاق دفاعي موثوق به من الصين ليست جيدة، فإن احتمال الحصول عليها من الولايات المتحدة ليس أفضل بكثير. ولكن هذا ليس بسبب عدم المحاولة. وإنما بسبب المطالب التي وضعتها السعودية في مقابل الهدف الذي ترغب به إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، وهو تطبيع السعودية لعلاقاتها مع إسرائيل، حيث طلبت الرياض ضمانات أمنية رسمية من واشنطن (ترقى إلى معاهدة دفاع مشترك، على غرار العلاقة بين دول الحلف الأطلسي) – وهو ما قد يصل إلى حد الردع الرسمي الموسع – والمساعدة في إنشاء برنامج نووي مدني محلي.
ويقول الباحث إنه “من الناحية النظرية، يمكن لصفقة التطبيع السعودية – الإسرائيلية أن تساهم في أمن الشرق الأوسط والازدهار الاقتصادي في المنطقة، وهو ما ستستفيد منه الولايات المتحدة والعالم. لكن بايدن، القائد الأعلى الذي يتخذ القرار بشأن هذه القضية (بتفويض نهائي من الكونغرس)، جعل الأمر يبدو وكأن واشنطن ليست مستعدة في أي وقت قريب لدفع الثمن الباهظ لاتفاق دفاع رسمي مع المملكة لدعم رؤية لا تؤدي إلا إلى تفاقم المشكلة”.
أما بالنسبة إلى خيار الدفاع الذاتي، فإن الورقة تتوصل إلى استنتاج يقول إن “التحدي الذي يواجه التحول الدفاعي السعودي، مثل أي عملية أخرى من هذا القبيل في أي مكان آخر، هو أنه نظرًا إلى أنه شامل، فسوف يستغرق الأمر سنوات عديدة قبل أن يكون له تأثير ملموس على الدفاع الوطني. فالسعوديون لا يشترون معدات عسكرية جديدة فحسب، كما اعتادوا أن يفعلوا، ولكن دون تأثير يذكر على الأمن. إنهم يستثمرون في القواعد والمعايير والعمليات والإجراءات التي تشكل أساسًا دفاعيًا سليمًا، وهي أشياء لم يفعلوها من قبل. إنهم يتعلمون كيفية إنشاء وإدارة أنظمة الموارد البشرية، وكيفية أداء الميزانية والمحاسبة بشكل أفضل، وكيفية الحد من الهدر والفساد، وكيفية تشغيل الخدمات اللوجستية، وكيفية صياغة الإستراتيجيات والعقيدة، وكيفية إنشاء تسلسل القيادة، وكيفية التدريب بشكل أكثر فعالية، وكيفية تعزيز المفاصل، وكيفية بناء أنظمة الذكاء المهنية، وكيفية إجراء التخطيط وكيفية القيام بعملية الاستحواذ بشكل صحيح. إنهم يحاولون في الأساس تحقيق المهمة الأكثر صعوبة التي تواجه أي قوة عسكرية طموحة: تحويل ميزانيتهم الدفاعية (الصحية) إلى قوة قتالية حقيقية. وهم يدركون أن تحقيق ذلك يتطلب إعادة هندسة المؤسسات الدفاعية التي تسير جنبًا إلى جنب مع تغييرات كبيرة في الثقافة والمجتمع السعودي. وفي الواقع، كما توضح رؤية 2030 بشكل صحيح، فإن كل شيء مترابط. إن بناء جيش سعودي جديد يتطلب بناء مجتمع سعودي جديد واقتصاد سعودي جديد. وهذا باختصار هو ما تدور حوله خطة الأمير محمد بن سلمان الكبرى”.
الرياض ليست هي الطرف الذي يريد الإيرانيون حقاً أن ينتزعوا منه التنازلات الأمنية، لأن قلقهم كان ولا يزال يتمثل في القوة العسكرية الأميركية في المنطقة
يتضح من ذلك أن رؤية الأمير محمد تعيد بناء كل شيء في السعودية. تفعل ذلك وهي تنظر إلى أواخر القرن الجاري، وليس إلى نصفه الأول. وهو مما يتطلب مزيجا متداخلا من كل الأدوات والوسائل لتحقيق “الردع”، وإثبات القدرة على أنه ردع لا يقتصر على حماية منشآت نفطية مكشوفة.
وهناك حقيقة تكاد تكون حاسمة، هي أن السعودية تمارس منذ الإعلان عن هذه الرؤية سيادة قرار سياسية وإستراتيجية ساطعة. وهي إذا كانت قد عوقبت ضمنيا من جانب واشنطن عليها، فقد اتضح من خلال الزيارات المتكررة لكبار المسؤولين الأميركيين، ومن بينهم الرئيس بايدن نفسه، أن الرياض كسبت هذه المعركة. وبرهنت عليها غير مرة. سواء عندما وقفت وراء خفض إنتاج النفط في منظمة أوبك، أو عندما اتخذت موقفا محايدا حيال الحرب في أوكرانيا، أو من خلال الانفتاح على الصين.
يعني كسب هذه المعركة أن الرياض صارت تستطيع أن تفاضل وتختار بين شركائها في كل أرجاء العالم، سواء أكان ذلك لخدمة تطلعاتها الأمنية، أو لخدمة تطلعاتها الاقتصادية.
وفي الواقع، فإن “الردع عن طريق الدبلوماسية” يمكنه أن يثبت أنه أكثر فاعلية من “الدبلوماسية عن طريق الردع”. صحيح أنه لا يمكن الثقة بنزعات إيران، لاسيما وأن دوافعها الأيديولوجية تظل عنصرا حاسما في صنع القرار الفوضوي في طهران، إلا أن إيران نفسها لم تجن الكثير من تلك الدوافع.
ومع اندلاع الانتفاضة بعد الأخرى، بات واضحا لقيادة إيران أن “سيطرتها على أربع عواصم عربية” لا تضمن لها السيطرة على طهران نفسها، وذلك إذا ما بقيت بلدا يعيش على إثارة القلاقل والحروب الأهلية في الجوار.
ما قد تستطيع إيران أن تراه (كما تراه الرياض) هو أنها قد تستطيع إثارة الاضطرابات، إلا أنها تتضرر منها أكثر مما يتضرر منها الآخرون، بينما فلسفة “تصفير المشاكل” تضمن لها وللمنطقة وضعا آخر.