إبراهيم غرايبة
كاتب أردني
غارقون منذ مئات الأعوام في الحروب والكراهية لأجل مقولات واعتقادات يفترض أنّها فردية لا علاقة لأحد بها سوى الفرد وحده، ويجب ألّا تشغل أحداً في الفضاء العام، وأن تكون مستقلة عن تنظيم حياتنا السياسية والاقتصادية، ولا نملك دليلاً على صحتها، وإن كانت صحيحة، فلا يجزم أحد أنّها مقدسة، وإن كانت مقدسة، فلا يملك أحد أن يفرضها على أحد، أو يمنع أحداً من الإيمان بها، فليس شرطاً أنّ مقولة صحيحة أو مثبتة عقليّاً أن تكون مقدسة يجب الإيمان بها، وليس شرطاً أنّ مقولة دينية يجب أن تكون صحيحة علميّاً ويجب إثباتها عقليّاً، فالإيمان والتصديق بمقولة أو فكرة أو اعتقاد أو خبر لا يغير فيها دينيّاً إثباتها أو نفيها علميّاً، الناس يصدقون أو لا يصدقون وكفى.
وهذا يقتضي بالضرورة أنّ المعتقدات والأفكار الدينية يجب أن تظل فردية، لأنّ نقلها إلى الفضاء العام يعني إخضاعها للعقل والتجربة، ممّا يعني بالضرورة أنّها قابلة للمراجعة والتصحيح وإثبات الخطأ. القابلية لإثبات الخطأ شرط بنيوي في الأفكار والتطبيقات العقلية والإنسانية. يجب الإيمان بأنّ فكرة تخضع للتصويت والمراجعة يمكن أن تكون خطأ، وأنّ الفكرة المختلفة يمكن أن تكون صواباً. فإذا تقدمنا باليقين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه إلى الفضاء الإنساني والتطبيقي العقلي، فإننا نلحق ضرراً بالغاً وتأسيسياً بالدين والحياة، فما من فهم وتطبيق إلّا ويكون عقليّاً وإنسانيّاً.
الذين يحاسبون غيرهم فرديّاً أو مؤسسيّاً في المشاعر أو المعاملة أو التطبيق على أسس دينية أو بمعيار الاتفاق والمخالفة في المعتقدات والأفكار الدينية، يقحمون الإلهي في الإنساني، يؤنسنون الإله ويمارسون الشرك بالله، أو يضعون أنفسهم مكان الله أو شركاء له، فإذا كنت مؤمناً بقدرة الله وحسابه، فدع ذلك له، واشغل نفسك، سواء كنت فرداً أو مؤسسة أو سلطة، بما يخصك وتنشئه وتتوافق فيه مع أعضاء المجتمع.
*الذين يحاسبون غيرهم فرديّاً أو مؤسسيّاً في المشاعر أو المعاملة أو التطبيق على أسس دينية أو بمعيار الاتفاق والمخالفة في المعتقدات والأفكار الدينية، يقحمون الإلهي في الإنساني*
هذا الاستقلال بين الاعتقاد الديني وبين تنظيم الحياة ضرورة دينية وحياتية، حتى لأولئك المؤمنين بتطبيقات حياتية جماعية ومؤسسية مستمدة من الدين يجب أن يؤمنوا بوضوح بأنّ الفهم والتطبيق بما هو عملية إنسانية وعقلية مختلفان عن الدين أو النص الديني المستمد منه الفهم والتطبيق، ذلك أنّها عمليات (الفهم والتطبيق) على قدر من التعدد والاختلاف يساوي عدد المتدينين والمؤمنين، فليس ثمّة فهم واحد أو تطبيق واحد للنص الديني، ما يضعنا بالضرورة في خانة الإنساني والعقلاني، وليس الديني، حتى ونحن نطبق الدين أو نظن أننا نطبق الدين.
لا بأس أن تؤمن بنص أو بمعتقد ديني، ولا بأس أن يمنحك ذلك قدراً من الرضا والتميز، لكنّه شعور يخصك وحدك، ولا تملك أن تقدمه إلى غيرك، أو تفرضه على أحد أو تحاسبه أو تكافئه على أساسه، إنك بذلك تتحول من مؤمن بالله إلى من يعلن ضمناً ربوبية نفسه.
يكفي الإنسان ليصل إلى الهدى أن يفكر ويتأمل في صدق، ويهتم بالعالم اهتماماً عميقاً، بعيدًا عن اللغو، مهما كان اعتقاده وما توصل إليه، ولا يضره أن يكون مخطئاً أو مصيباً، فلا أحد يعلم الصواب، الله لم يطلب منا في الفكر والاعتقاد سوى الصدق: “قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم”، فلماذا نطالب الناس بأكثر ممّا يريد الله؟ ولم يطلب الله من أحد أن يجبر أحداً على إيمان “لا إكراه في الدين”…، “أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين”.
لكن لماذا تكون الجماعات المتطرفة قادرة على مواصلة اجتذاب المؤيدين والممولين؟ إنّها ظاهرة تفرض بداهة وببساطة مجموعة من الافتراضات:
1- المجتمعات ليست حليفة للدول في مكافحة التطرف والإرهاب. فهي (المجتمعات) سلبية وغير معنية، ولعلها في الجهة المعاكسة؛ وهي أو فئات واسعة منها، ترى الجماعات المتطرفة حليفة لها في حماية نفسها ومواجهة خصومها.
2- الأنظمة السياسية كثير منها غير جادة في مكافحة الإرهاب، ولعلها تغضّ الطرف عنه لأسباب عدة، وربما في أحيان كثيرة ترعاه وتشجعه من طرف خفي. ففي هذا الصراع، يمكن السيطرة على المجتمعات، وإلحاق الطبقة الوسطى بالنخب المهيمنة، أو مواجهة دول وقوى سياسية وإقليمية أو التحالف معها.
3- مكافحة الإرهاب والتطرف تسير في الاتجاه الخاطئ؛ فالدول وأجهزتها مشغولة بأعراض الظاهرة وتجلياتها، أكثر من انشغالها بجوهرها وأسبابها.
4- التطرف والإرهاب يشكّلان ظاهرة حتمية متصلة بالتحولات والعولمة والصراع الاجتماعي والسياسي؛ مثلهما مثل الجريمة (بمعناها الشائع) والمخدرات والوباء والأزمات الاقتصادية والمالية.
5- ليس هناك كراهية ولا إرهاب؛ المسألة حركات وجماعات من المتمردين والخارجين على القانون والمهمشين والمغامرين. فالإرهاب، مثل ظاهرة الجماعات والعصابات المسلحة، متعلق بسيادة الدولة وتطبيق القانون!
*مكافحة الإرهاب والتطرف تسير في الاتجاه الخاطئ؛ فالدول وأجهزتها مشغولة بأعراض الظاهرة وتجلياتها، أكثر من انشغالها بجوهرها وأسبابها*
6- الظاهرة هي مسألة شعور بالتهديد، تستحضر فكراً دينيّاً مُتشدداً وراسخاً، ينشئ التطرف والعنف؛ وهي ثقافة بدائية قائمة على الصراع لأجل البقاء، مستمدة من الرعي والصيد وجمع الثمار. أو الحيلة المتبقية للأمم لمواجهة الاحتلال والخروج من الهزائم والشعور بالفشل والقهر.
7- الظاهرة متصلة بقاعدة العرض والطلب. فهذه القاعدة حقيقة أساسية في الفكر والسياسة والسوق والسلوك. ويجب أن يفهم الإرهاب بما هو عمليات تشكل طلباً لدى الناس أو فئة واسعة منهم. هكذا يقول، على سبيل المثال، مصممو ومخرجو السينما في تفسير العنف والرعب والإغراء والقتل التي تفيض بها السينما. يمثل العنف والتطرف، وفق هذه القاعدة، سلعة تلجأ إليها المجتمعات لحلّ مشكلاتها، أو تلبية احتياجات وأهداف وتطلعات.
8- هناك الوفرة التي تعمل ضد نفسها، في السعي الحتمي والتلقائي للإنسان بعد أن يحل مشكلة البقاء، ويملك وفرة من الطعام والوقت تسمح له بالتفكير، إلى البحث عن المعنى والجدوى. ولعلهما (المعنى والجدوى) كلمتا السرّ فيما جرى ويجري منذ إقامة الدولة الحديثة. فلا يمكن أبداً مع تطوير المدارس والمؤسسات ووفرة المعرفة والموارد، إلّا أن يبحث الناس عن المعنى والجدوى. وفي بحثها عنهما، ضلت المجتمعات والدول الطريق، إذ وجدتهما في هوس وتطرف دينيين، مثل الوفرة التي تؤدي إلى الإدمان على سبيل المثال!
9- سلبية المجتمعات وانسحابها بعد تغييبها وتهميشها المتواصل والمتراكم من قبل النخب والسلطات. واليوم، لا مجال في مواجهة الجماعات الدينية والمتشددة والمسلحة سوى أمرين: المشاركة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الواسعة للمجتمعات والناس ليقرروا مصيرهم، أو أن يعود الناس رعاة وصيادين وجامعي ثمار، لا يملكون من الوقت إلّا الكافي لتأمين بقائهم!
نقلاً عن حفريات