عبدالباسط سلامة هيكل
كاتب مصري
لا يقوم كثير من المنشغلين بالدراسات الإسلامية في جامعاتنا بدور الباحث المفكّر، وإنما بدور الواعظ المتأمل، والوعْظ إذا دخل في البحث العلمي أفسده؛ لأنّ الوعظ يعتمد على تحسين أو تقبيح إطلاقي عام مرسل يقيني، لا تعرفه لغة العلم، فهم لا يبحثون فيما يُحقق وعياً علمياً بالتراث، بل يستظهرون ما قاله القدامى كمُقدماتٍ لنتائجَ جاهزةٍ قد حددوها مسبقاً، ويُطلون المقدمات والنتائج بطلاء حداثي، بِحَشْوِ البحثِ أو المقالِ العلميِّ ببعض الكلمات والجمل الحداثية، فيظهر “وكأنّه يكتشف جديداً، وهو في الواقع يُمارس دور الحُواة، فيُخرج من ثيابه ما سبق أن خبّأه، وذلك ليُدهش النّاس، وينال إعجابهم، وما يكون الباحث قد خبّأه في هذه الحالة ليس سوى ما قاله القدماء في نفس القضية وعن نفس الموضوع”1
يصدر أمثال هؤلاء الباحثين في دراساتهم الإسلامية عن يقين كبيرٍ في أنّهم يُحيطون بالعلم الشرعي، ظنّاً منهم أنّ عروبة لسانهم كافية لمنحهم قدرةً، دونَ غيرهم، على فهم القرآن الكريم وتراث علماء المسلمين، وهذا ما يجعلهم يشعرون بالنفور من كل منهج جديدٍ لا يعرفونه، ويتّهمون كلّ مختلفٍ عنهم، ويتصدّون له بعنفٍ شديد؛ خوفاً من أن يُزعزع ثقتهم بعلمهم ونظرتهم للعالم، فلديهم عقل متأكّد من كل شيء؛ لذا فهم خاملون لا يبحثون عن شيء جديد، لا يهزّهم ولا يُحرّكهم الإخفاق الحضاري الذي نعيشه منذ مئات السنين، ولا المشكلات الاجتماعية التي تُحيط بنا، متجاهلين أنّ “كل ّ المشاكل الناجمة عن أسلوب ومستوى معين من التفكير لا يُمكن أن تُحلّ ما دُمنا مُصرّين على اعتماد نفس الأسلوب في التفكير”، على حدّ قول ألبرت آينشتاين. فضعْف منظومة القيم الإسلامية وعزلة اللغة العربية في مجتمعاتنا يكمن خلفه أسلوبٌ ومستوى معين من التفكير في أقسام الدراسات الإسلامية والعربية بجامعاتنا، ولا أمل في التغيير ما دُمنا مُصرّين على الأسلوب نفسه.
فنحن في أمسّ الحاجة إلى تفكير مختلفٍ، على غرار ما قدّمه ابن رشد لأوروبا في بدايات نهضتها، فنقلت عنه فكرة الإنسان الباحث القادر على إنتاج المعرفة، والتأثير في المجتمع، وقبول الاختلاف النابع من اختلاف القدرات وتعددية النظر والتأويل، وعلى غرار ما فعله “دي سوسور” عندما أعاد النظر في المسلّمات الشائعة حول طريقة عمل اللغة في عددٍ من المحاضرات جمعها طلابه بالكاد في كتابٍ هو مجمل نتاجها العلمي؛ لتبدأ به الدراسات اللغوية الحديثة، لكن من المؤسف أنّ كثيراً من الباحثين في جامعاتنا استوقفتهم ثمرة فكر ابن رشد ونتائج دي سوسور، ولم يشغلوا أنفسهم بآليات التفكير ذاتها، وهذا النهج بعينه هو نهجنا في التعامل مع الفكر شرقياً كان أم غربياً، لا نتعامل معه بوصفه فاعلية متحركة ديناميكية نحتاج إلى التدرب عليها، بقدر ما نهتمّ بالنتائج النفعية المباشرة.
يظنّ هذا النوع من الباحثين أنّ المعرفة تبدأ من حشد المعلومات والتفاصيل، وإعادة ترتيبها؛ لتبدوَ وكأنّها شيء مختلف، والواقع أنّه ينطلق في تفكيره البحثي من نقطة زمنية وواقع معرفي لم يعد له وجود، فحوسبة المعلومات قضت على آمال البحث التقليدي، فماذا عساه أن يُقدّم والموسوعات الضّخمة في المعاجم وكتب الحديث والفقه والشعر وغيرها من علوم التراث تنتشر على فضاء الانترنت! فأقصى ما يُقدّمه البحث التقليدي في التراث هو إعادة تحقيق بعض مخطوطاته مستفيداً من ثورة الحوسبة المعلوماتية؛ غير مُبالٍ أحياناً بأنّ موضوعات بعض المخطوطات مثل تفضيل مذهب فقهي على آخر، أو جدل حول مسألة كلامية لا تُمثّل إضافة إلى واقعنا المعرفي، ولا تُجيب عن تساؤلات المجتمع المُلِحّة!
يُجيد هذا النوع من الباحثين كتابة آلاف الأسطر في وصف الحالة السيئة لواقعنا العربي والإسلامي دون أن تتجاوز لُغتهم حدود التوصيف الإنشائي إلى مستويات أعمق من التفكير النقدي، والعمل التنظيري الذي يتبعه تغييرات جذرية للواقع الخارجي على غرار محاولات الأمم في سعيها نحو التمدن والتحضر، لكنّه على النقيض، يتّهم كلّ محاولة للتفكير بأنّها تشكيك، ويرى كل محاولة للنقد نقضاً، مكتفياً بترديد الإجابات الجاهزة دون التفكير فيها، تلك الإجابات التي تحاصر العقل، وتعطّله، وتمنعه من الانطلاق في فضاءات الإبداع بحثاً عن حلول لمشاكله، فالإجابات المُعلّبة المُعدّة سلفاً تُضعف ملكة النقد بداخل الباحث، وتُعطيه إحساساً كاذباً بالإنجاز المعرفي؛ ليمضي في شؤون حياته اليومية، إجابات تسكينيه تقفز على المشكلة، ولا تُواجهها، تُعطي شعوراً بالأمان لمجتمع قلقٍ مما حوله، فكل محاولة بحثية لتفكيك تلك الأجوبة المسكّنة، وإعادة النظر فيها يُهدد وجود المستكينين أنفسهم، ممّا يدفعهم إلى استخدام العنف، والتعامل مع الباحث المتسائل كعدو.
وفي الجانب الآخر، على نقيض العقل الانعزالي الذي يعيش في سُباتٍ عميق، مكتفياً بتوزيع الاتهامات، وكتابة “الصعبانيات”، ، يتحرك العقل المُتطلّع إلى المعرفة، الباحث عن إجابات لأسئلة الحاضر، فكلّما تعرّف على ثقافات متنوعة، اتّسع أفقه، وازدادت ثقته بنفسه كجزء من عالم متعدد الأفكار والثقافات، وأصبح مرناً لا يتوقف عن مراجعة أفكاره ومواقفه باستمرار، متقبلاً للتغيير والتجديد، منطلقاً في تفكيره من إيمانه بدعوة القرآن الكريم في (٦٤٠) آية كريمة التفكير، الذي هو في حقيقته حالة من التساؤل المستمر، فعندما يتوقف العقل عن التساؤل يختفي، فلا معنى لبحثٍ في الإسلاميات لا ينطلق في سؤاله البحثي من مشكلات الواقع، سؤال يتعايش به الباحث مع حاضره، بعيداً عن أسئلة الماضي التي لا مساس لها بالحاضر، وليست مورد ابتلاء المُكلّفين بلغة الفقهاء، فكلّ مرحلة لها تساؤلات وإشكاليات تعبر عن هموم الفرد والمجتمع..
وكلما أمعن الباحث في التفكير أمعن في المثابرة والإصرار على مواجهة التخلف الذي نعيشه، والمضي بالبحث العلمي في الطريق الشائق الذي قرر أن يسلكه، إنّه طريق فهم القرآن الكريم وفهم حركة الرسول، صلى الله عليه وسلم، بين الواقع والوحي كلام الله الذي وصلنا بلغة العرب كما قال تعالى “بلسان عربي مبين”؛ لنبحث فيه وفق ما انتهت إليه الدراسات اللغوية، ودون أن نغفل الاستفادة من تراث القدامى بعد إخضاعه للنقد العلمي، فلا نُبرر تخلّف مجتمعاتنا بمؤامرة الآخر بل نبحث عن أسباب التخلّف داخلنا، مستحضرين قول السيد المسيح “إنّ أحدكم ليرى القشّة في عين أخيه، ولا يرى الخشبة في عين نفسه”.
أخيراً لن تتحرك طرق تعليم ومناهج بحث العلوم الإسلامية إلا باسترداد الباحث المفكر، وهذا لا يكون بالتّلقين الذي يجرى في المدارس والجامعات، ويعزّز بداخل كل منّا تعصباً لفهمه وتدينه، فمهما كان السؤال المطروح معقداً، ويحتاج إلى تفكير فلدينا إجابات جاهزة سريعة نتجاوز بها حدود المعرفة البشرية التي تُحتّم عليه المزيد من التواضع والتّأني في إصدار الأحكام، والمزيد من اليقظة والتحليل لكلّ ما يقعُ داخل بيئتنا المعرفية، فمخاصمة الفكر والتّنكر لنتائجه هو المسؤول عن كلّ أنماط الاستبعاد والإقصاء والتكفير الذي لا يُمارس على المستوى الديني فحسب، بل وعلى المستوى السياسي والعرقِيّ والثقافيّ.
هامش:
(1) مفهوم النّص، ص٣٠،٢٩.
نقلاً عن حفريات