أحمد بان
كاتب مصري
رغم تعدد الواجهات والأسماء لكلّ المنظمات والجماعة المتطرفة، بين سلفيين وإخوان..، يبقى هناك قاسم مشترك، هو ما يصنع عقل المتطرف ويشكّل الأرضية التي يتحرك منها، وربما الرادع عن أن يفكر بشكل مختلف في حياته، وفي العالم من حوله.
يتقاسم كلّ الطيف المتطرف مجموعة من الأفكار، التي تحولت إلى مسلّمات فكرية وفقهية، صنعت تصوّره عن دوره ودور الدين في الحياة، تبرز ربما من بين كلّ تلك الأفكار ثلاث مسلّمات وهمية، نستطيع أن نسميها “الأساطير” المؤسسة لعقل المتطرف، والتي صبّ بعض الفقهاء الذين باعوا عقولهم للتنظيم قواعدها الخرسانية، التي أصبحت أقوى مع الزمن، خصوصاً مع تقاعس علماء آخرين عن مواجهة الراكد والمألوف من التراث.
أول تلك الأفكار؛ أنّ الخلافة الإسلامية بشكلها التاريخي، التي لم نطلع تاريخياً على وجهها المثالي، الذي جسد حقائق وقيم الدين، سوى في حياة النبي، صلّى الله عليه وسلّم، بعد انتقاله، صلّى الله عليه وسلّم، إلى المدينة، وفي نزر يسير من تجربة الخلفاء الراشدين على تباين معروف.
يعتقد جمهور المتطرفين تحت مظلة كتابات تكاثرت؛ أنّ الخلافة فريضة من فرائض الدين، وأنّ هذا الدين، الذي حثّنا الله تعالى على ألا يكون أداة للتفرقة، بقوله تعالى: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ ﴾، حوّله هؤلاء عبر إقحامه في مساحة الحكم والسياسة، إلى أداة تعبئة وتفريق وفتنة للأشخاص والدول والمجتمعات.
كما ينسبون إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنّه كرّس لتلك الفكرة، بالأحرى بمقولته: “لا إسلام إلا بإمارة ولا إمارة إلا بطاعة ولا طاعة إلا بجماعة”، ولا أعلم، بصرف النظر عن صحة تلك المقولة، وسياقها ومعناها، كيف تبنى أحكام بتلك الخطورة بعيداً عن النص القرآني، أو الحديث الصحيح المتواتر، اعتماداً على مقولة منسوبة للخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وسلوكه في الحكم، الذي رغم عدله، إلا أنّه كان نتاج ظروف سياسية واجتماعية وقبلية خاصة، ولم يكن تنفيذاً أميناً للوحي، كما ادّعوا، رغم تقديرنا لعظمة تلك التجربة التاريخية التي تبقى تجربة بشرية وليست تجربة نبوية.
استخلص هؤلاء بتعسف، القواعد الثلاث المؤسسة للتطرف:
1- الخلافة فريضة من فرائض الدين.
2- الجماعة، أو التنظيم، فريضة؛ لأنّ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
3- السمع والطاعة للجماعة وأميرها.
تأمل في حال أيّة جماعة من السلفيين، إلى الإخوان، إلى الجهاديين، ستجد أنّ تلك المسائل هي قوام فكرتهم ومشروعهم وتنظيمهم، وأنّه بتفكيك هذه المقولات لا يتوفر القوم على شيء يمسكون به أو يعبئون أفرادهم من خلاله.
لا شكّ في أنّنا أمام معضلة متعلقة بكتابات تراكمت، تولى كبرها بالأساس الإخوان المسلمون، خصوصاً هؤلاء ممن لبسوا علينا بدخان الانتماء إلى الفكرة، وليس التنظيم، رغم أنّ الإخوان، تحديداً، تنظيم وليس فكرة، وأنّ التفكير والعقل ما دخل بينهم إلا وشتت شملهم وبدّد صفّهم.
وأنا أفتش في بعض الكتابات، التي نظرت للفكرة، بعيداً عن كتب التنظيم المعروفة، وقعت على كتاب عن تاريخ المسلمين اسمه “تاريخ العالم الإسلامي”، من إعداد إسماعيل أحمد ياغي ومحمود شاكر، والصادر عن دار المريخ بالسعودية، عام 1992، في فقرة من فقراته الملغمة، يقول عن الفرق بين الدول التي فتحها الإسلام بالسيف، والأخرى التي فتحها بالدعوة، والمعاملة من خلال التجار.
والمفارقة المعروفة؛ أنّ أكبر البلدان الإسلامية في العالم فتحت عبر الدعوة السلمية، وإبراز قيم الإسلام متجسدة في تجار أحسنوا تمثيل قيمه وتقمصها، ورغم ذلك يرى الكاتب أنّ الإسلام دخل تلك البلدان خلسة، وهو يرى أنّ السيف كان أصدق إنباءً من الكتب؛ لأنّه على حدّ قوله: “ركز المسلمون أمورهم في البلدان التي دخولها؛ حيث أقبل السكان على الإسلام أفواجاً؛ لأنّه دين الفطرة، وفي مبادئه ما يحلمون به من مساواة وحرية وعدالة وأمن، ولم يمضِ الا وقت قصير حتى غدا الإسلام دين الأكثرية، ولم يبقَ في هذه البلدان إلا المسلمون، وأهل الكتاب، ومن يلحق بهم من المجوس، وهؤلاء الذين هم من غير المسلمين، وهم الذين يدفعون الجزية، لم يسمح ببقاء غيرهم في ديار الإسلام، لقوله تعالى: ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾.
تأمل منطق الكاتب في التأكيد على أنّ الإسلام “لا يتيح حرية العقيدة ولا يؤمن بالمواطنة، بل يسعى لبسط سلطته المطلقة على الأرض بمن فيها”، هذا منطق داعش حاضر في كتابات تبدو بعيدة عن أدبيات التنظيم المعروفة، ثم يستطرد قائلاً: “أما السكان الذين لم يقبلوا الإسلام، ولم يكونوا من أهل الكتاب أو المجوس، أي كانوا من أهل الوثنيات الذين يعبدون المخلوقات، فعليهم أن يرحلوا من الأمصار التي يحكمها المسلمون، وإن لم يفعلوا، أو إذا أرادوا التشبث في ديارهم، فإنّ على المسلمين قتلهم، لقوله تعالى: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، ثم يردف قائلاً: “لذلك نرى اليوم أنّ الأمصار الإسلامية التي دخلها المسلمون فاتحين، لا يوجد بين سكانها إلا من كان مسلماً، أو من أهل الكتاب، ومن يلحق بهم من المجوس، وتخلو تماماً من أهل الوثنيات؛ من هنادك، وبوذيين، وكونفوشيين، وشنتويين، …إلخ”، ببساطة؛ يكرس هذا الكاتب العداوة بين المسلمين، وبين نصف سكان الكوكب، عبر تفسيراته التي وجدت من يحملها، ويصنع تحتها تنظيمات وفرقاً تدّعي نصر الدين بالعنف.
لا يبدو داعش مقطوع الصلة عن أفكار سكت عنها علماء المؤسسات الدينية، لكنّ المؤكد أنّ الإخوان المسلمين، تحديداً، وعبر تراكم هادئ استمر لعقود، سربوا تلك الأفكار إلى العقل الجمعي المسلم، وأنفقت أموال وجهود، حتى ارتقت تلك الأساطير إلى خانة المسلّمات غير القابلة للنقاش، رغم تهافت منطقها، لكن ماذا نفعل وقد سكتت مؤسسات دينية رسمية، وعلماء مستقلون، عن تفنيد تلك الأساطير، وساعدوا بصمتهم على ظهور هذا الوباء الفكري؟!
نقلاً عن حفريات