أشرف منصور
كاتب مصري
بعد أن كان شعار “الإسلام هو الحل” منتشراً على مدى فترة زمنية طويلة، امتدّت من النصف الثاني من السبعينيات، حتى أوائل الألفية الثالثة، شهد العقد الأخير تراجعاً ملحوظاً في انتشار الشعار وتكراره، حتّى أنّه يكاد يختفي الآن من المجال السياسي والمجال العام، فما السبب في هذه الظاهرة؟ للإجابة عن هذا السؤال، يجب علينا البحث في كيفية نشأة الشعار، وأوجه توظيفاته، وسياقات تلك التوظيفات.
ظهر هذا الشعار أثناء الصعود السياسي للتيارات الإسلامية، فبعد أن سمحت أنظمة الحكم المختلفة في العالم العربي، خاصة مصر، بتواجد سياسي لهذه التيارات، كان هذا الشعار رمزاً لها، وعلامة على التوجه الإسلامي السياسي لأحزاب ومرشحين للمجالس النيابية والنقابية، كانت البداية استعانة نظام السادات بالتيارات الإسلامية، للوقوف أمام شعبية التيارات اليسارية والناصرية، في الجامعات وفي الشارع السياسي، بالتالي؛ فإنّ صعود الشعار نفسه كان تحت أعين الدولة ورعايتها.
هذا الشعار تعبوي وشعبوي، وهو يميني محافظ في جوهره السياسي، كما أنّه خَطابي عاطفي على مستوى تحليل الخطاب، إضافة إلى أنّه استمالي وحشدي، وهو في الوقت نفسه غامض، وغموضه يكمن في أنّه فضفاض، فهو لا يحدّد كيف يكون الإسلام هو الحل، ولا يعين الأشياء التي هو حلّ لها، وربما يكون غموضه هذا مقصوداً، فوفق علم النفس الاجتماعي؛ كلّما كان الشعار فضفاضاً وغير محدد الدلالة، يكون أكثر قدرة على الحشد، وعلى جمع أناس من توجهات مختلفة، وكان هذا هو المقصود من الشعار، أما إذا استعنا بآليات تحليل الخطاب السياسي الجماهيري، فإنّ هذا الشعار يمثل دالاً فارغاً “empty signifier”، أي تعبيراً رمزياً، دون مضمون واضح، هدفه أن يتم ملؤه بأيّ مكونات سياسية، شرط أن تكون منتمية للإسلام السياسي، وبذلك كان الشعار مظلة رمزية هدفها ضمّ كلّ ألوان الإسلام السياسي، وكلّ أشكال التدين، الشعبية والرسمية.
أما في نظر التيارات الإسلامية نفسها، فإنّ هذا الشعار كان يعني عندها عدداً من الدلالات، وهي تتصف كذلك بالعمومية الشديدة: فعبارة “الإسلام هو الحل” كانت تعني لديهم: تطبيق الشريعة الإسلامية، أو تطبيق نظام الحكم الإسلامي، أو الحكومة الإسلامية، أو التوجيه الإسلامي لسياسات الدولة، أو تحكيم الإسلام في كل مناحي السياسة والمجتمع، وفي نظر التيارات ذات الصبغة الفكرية الإسلامية، كان الشعار يعني العودة إلى الدين لمواجهة المادية الرأسمالية، وإلحاد الشيوعية، وأخطاء الاشتراكية، وكان الشعار كذلك مجمعاً للعديد من القيم الأخلاقية التي استمالت الكثير من المتدينين، مثل: العدالة الاجتماعية، والمساواة، والفضائل الأخلاقية الدينية في مواجهة الفساد القائم.
عمل هذا الشعار على مستويات عديدة: المستوى الجامعي في تجنيد طلاب جدد للجماعات الإسلامية، والمستوى الانتخابي في وضع الشعار على صور وأسماء المرشحين للمجالس النيابية والنقابات المهنية، كعلامة على انتمائهم الإسلامي؛ ففي ظلّ استمرار الحظر الحكومي لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، طوال الثمانينيات والتسعينيات، فإنّ الشيء الوحيد الدال على انتماء مرشّحٍ ما للجماعة، هو هذه العبارة المكتوبة في أعلى صور المرشح، أو المرفقة باسمه في الإعلانات الانتخابية.
في البداية كانت خبرة التيارات الإسلامية بالسياسة قليلة ومحدودة، وبرؤية سياسية مقيدة بدعاوى تطبيق الشريعة الإسلامية، ودعاوى صلاحية الإسلام كنظام في الحكم، شيئاً فشيئاً، زاد احتكاك التيارات السياسية الإسلامية بباقي الأحزاب والتيارات السياسية الموجودة على الساحة، وزاد الجدل والنقاش بينهما، وازدادت الانتقادات للشعار نفسه ولتوظيفاته السياسية، وتم الاعتراض كثيراً على احتكار التيارات الإسلامية للدين لنفسها من أجل منافع سياسية.
ولم يكن التفاعل والنقد الوحيدين اللذين أدّيا إلى الخفوت التدريجي غير الملاحظ للشعار، والإقلال المتدرج لتكراره؛ بل هناك عوامل أخرى أدّت إلى كلّ ذلك، أدركت جماعة الإخوان المسلمين، منذ أوائل الألفية الثالثة، أنّها معزولة سياسياً، لا عن طريق التضييق الرسمي عليها وحسب؛ بل عن طريق رفض سياسي لها من قبل أحزاب وتيارات سياسية كثيرة، أدركت الجماعة كذلك أنّ شعارها الشعبوي الأصلي لن يفيد كثيراً في صراعها مع التيارات السياسية المنافسة، خاصة بعد ظهور تيارات إسلامية أخرى، تدعي لنفسها تمثيل الإسلام تمثيلاً سياسياً، مثل؛ جماعات العنف الديني والجماعات السلفية، وهنا بالضبط شهد الشعار انتشاراً وشيوعاً خارج جماعة الإخوان، ما أبطل احتكار الجماعة له، خاصة بعد أن تحول إلى ساحة صراع وتنافس بين الجماعات الإسلامية حول أحقية تمثيل الإسلام ذاته.
لقد بدأ هذا الشعار في التواري في اللحظة التي بدأت فيها التيارات الإسلامية تدخل في تحالفات سياسية مع قوى أخرى من خارجها، خاصة في الأعوام القليلة التي سبقت 25 يناير، في هذه الفترة أدركت جماعة الإخوان أنّها لا يمكن أن تصعد سياسياً لمواقع سيادية حاكمة، وتحصل على المزيد من المكاسب السياسية داخل جهاز الدولة، إلّا بإقامة تحالفات مع بعض التيارات من خارج تيار الإسلام السياسي، ومع بعض الشخصيات السياسية والعامة التي يمكن أن تساعدها في الصعود، وفي تقديم نفسها لجمهور أعرض، مما فرض عليها التخفيف من استخدام الشعار، والإقلال من تكراره.
لقد حاولت جماعة الإخوان التسلل إلى مجلس الشعب في الثمانينيات، تحت عباءة أحزاب رسمية مثل حزب الوفد، لكنّ وصول 88 عضواً إخوانياً لمجلس الشعب في انتخابات 2005، وهذا التواجد الكثيف غير المسبوق للجماعة في الهيئة البرلمانية صاحبة السلطة التشريعية، فرض عليها دخول لعبة التوازنات والمساومات السياسية، فلم ينفعها تكرار الشعار الشعبوي العاطفي الأخلاقي الذي كانت تستغله في السابق.
والمفارقة هنا؛ هي أنّ الجماعة انتبهت لضرورة التخفيف من حدة خطابها الإسلامي المتشدد، لا من ذاتها؛ بل من شخصيات خارج الجماعة، شخصيات سياسية وأكاديمية، وكانت تتلقى دعماً أكاديمياً من باحثين مرموقين في علم الاجتماع السياسي والعلوم السياسية، وتحت وصاية هؤلاء، بدأت الجماعة، للمرة الأولى، في إصدار شبه برنامج سياسي يخفف من حدة المعاداة للمرأة والأقليات الدينية، ويعترف بحقوق اجتماعية لها، وبين 2005 و2011 تزايدت هذه التحالفات، التي لم تكن ظاهرة على السطح، ولم تتضح إلّا بصعود الإخوان أثناء 2011، ووصولهم للحكم عام 2012، وكانت هذه الفترة أيضاً هي التي شهدت انشقاقات من داخل الإخوان، تترك الجماعة تنظيمياً لكنّها ثابتة على المبادئ الأساسية للدعوة الإخوانية، وفي هذه الحالة فلم تستطع الجماعة الأم احتكار الشعار لنفسها، نظراً لوجود منافسين لها من المنشقين.
وفي ظلّ المنافسة مع تيارات إسلامية مختلفة، والتحالفات الجديدة من خارج الجماعة، والانشقاقات الجديدة من داخلها، اختفى بالتدريج شعار “الإسلام هو الحل” من التداول العام، مقارنة بحضوره الطاغي في المراحل السابقة.
نقلاً عن حفريات