أحمد الديباوي
كاتب مصري
في العام 1860؛ نشبت في لبنان فتنة طائفية بين المسيحيين والدروز، فكتب الأستاذ بطرس البستاني، وهو مسيحي الديانة، مقالاً في صحيفته “نفير سوريا”، وكان هذا المقال دعوة صريحة إلى وجوب وضع حدّ فاصل بين الأديان والمدنيات؛ بأن يكون ثمة حاجز بين السلطة الرّوحية والسلطة المدنية؛ لأنّ ذلك هو شرط التقدّم والنهضة.
العلمانية تضع حدّاً فاصلاً
أمّا نصّ المعلم بطرس البستاني، فنجتزئ منه ما يأتي: “.. وما دام قومنا لا يميّزون بين الأديان التي يجب أن تكون بين العبد وخالقه، والمدنيات التي هي بين الإنسان وابن وطنه، أو بينه وحكومته، والتي عليها تبنى حالات الهيئة الاجتماعية والنسبة السياسية، ولا يضعون حدّاً فاصلاً بين هذين المبدأين، الممتازين طبعاً وديانة، فقد وجب وضع حاجز بين الرياسة؛ أي السلطة الروحية، والسياسة؛ أي السلطة المدنية؛ وذلك لأنّ الرياسة تتعلّق، ذاتاً وطبعاً، بأمور داخلية ثابتة لا تتغير بتغيُّر الأزمان والأحوال، بخلاف السياسة؛ فإنها تتعلق بأمور خارجية غير ثابتة، وقابلة للتغيّر والإصلاح، بحسب المكان والزمان والأحوال، لذلك كان المزج بين هاتين السلطتين، الممتازتين طبعاً، والمتضادتين في متعلقاتهما وموضوعهما، من شأنه أن يُوقع خلافاً بيّناً، وضرراً واضحاً في الأحكام والأديان”.
عبّر البستاني، في منتصف القرن التاسع عشر، عن مفهوم العلمانية تعبيراً بسيطاً، لكنّه جاء جامعاً وحاوياً لشروط التقدّم والنهضة؛ من خلال استلهام التجربة الأوروبية، التي وضعت حدّاً فاصلاً بين السلطة الروحية والسلطة المدنية، أما المفكر المغربي محمد عابد الجابري؛ فقد اصطنع صياغة توفيقية، أو إن شئت الدقة: هي صياغة تلفيقية، ليحاول من خلالها تهذيب مصطلح العلمانية في الوسط العربي الرافض له، فاصطنع كلمتين بديلتين هما: الديمقراطية والعقلانية، رغم اعترافه صراحة بأنّ معناهما متمثّل في مصطلح العلمانية، كما أنّه ربط ربطاً متعسّفاً؛ بين مسيحية بطرس البستاني، ووقوع المسيحيين تحت وطأة الحكم العثماني المستبدّ آنذاك، وفكرة استلهام التجربة الأوروبية التي كان نتيجتها التقدّم والنهضة في أوروبا.
في الواقع، ليس الأمر متعلقاً باستلهام تجربة أو غيرها، بقدر ما هو متعلّق بمبدأ لا يتعارض مع الإسلام في شيء، وإن أنكرت الأصوات الدينية ذلك؛ فالجابري كمفكّر، أراد أن يخرج بالمصطلح من إشكاليته و”سوء سمعته” في المحيط الإسلامي، باصطناع مصطلحين موجودين أساساً في تضاعيف العلمانية، وعلّل ذلك الأمر بأنّ “المرجعية التراثية التي يفكر بها، ومن داخلها، قطاع واسع عريض من الشيوخ والكهول والشبّان في الوطن العربي، لا تستسيغ مبدأ الفصل بين الدين والسياسة”؛ لذا اختار الطريق الأسهل نسبياً، وهو المراوغة اللفظية، تماماً كما راوغ عبد الوهاب المسيري، حين صكّ مصطلحين هما: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، التي لن تُجدي أصلاً مع الكهنوت الديني، الذي يستأثر بتفسير النصوص وفق أيديولوجيته الخاصة، دون اعتبار لمصطلحات يتمّ تجميلها، فهذا الكهنوت يرفض الاعتراف بسلطة غير سلطته؛ فهو لا يعترف بالديمقراطية السياسية أو الاجتماعية، ولا بالعقلانية التي ينادي بها الجابري، فتجميل المصطلحات لا يعطي علاجاً ناجعاً، كما يتخيّل البعض؛ بل لا بدّ من التشديد على تحرير الألفاظ والمصطلحات الأصلية، وإن كانت لا تأتي على هوى ومزاج أصحاب السلطة الدينية، التي يريدونها مهيمنة على حياة الناس، بصرف النظر عن عقائدهم أو متطلباتهم الروحية والعقلية.
مصطلح العلمانية ليس ملتبساً كما يزعم الجابري
إنّ مصطلح العلمانية، كما يعني حيادية الدولة دينيّاً وعقائديّاً؛ بأن لا تنحاز إلى دين ما، فهو يعني كذلك بناء الدولة على أساس ديمقراطي، يعطي العقل حافزاً للتحرّك والتدبّر والنظر والنقد وإبداء الرأي، وفي الوقت نفسه: يلغي الهيمنة الدينية والسيطرة الكهنوتية باسم الدين؛ لأنّها تقوم على العقلانية ونسبية الحقيقة، فشعار العلمانية ليس ملتبساً، كما يرى الجابري وكثيرون ممن يتبنوّن آراءه، بل هو مصطلح وموقف إبيستمولوجي، يصدم العقول التي تكلّست تحت تأثير التديّن المنغلق الشكلاني، والتقديس اللامتناهي لنصوص حديثية ظّنية استُغلت لتغييب العقل، وبثّ المغالطات التي لا تتفق مع آي القرآن والمنطق والعلم والتحضّر.
إنّ ظهور مصطلح العلمانية على يد بعض المفكرين المسيحيين الشاميين، لا يقدح فيه بحال، كما يدّعي البعض؛ فقد عانوا وعايشوا فترة زمنية حياتية حالكة، بفعل استبداد العثمانيين الذين كانوا يحكمون باسم (الخلافة الإسلامية)، وكان الكهنوت الديني وقتها، كما هو الحال في عصور الإقطاعية العسكرية، يُبرّر كلّ تصرفاتهم وممارساتهم السياسية والاجتماعية باسم الخلافة والدين، حتى غدت الخلافة ركناً من أركان هذا الدين؛ وكان رجال الدين، دائماً، مع الخليفة على الرعية، خاصّةً الرسميين منهم، الذين لا ينطقون بكلمة حقّ قط في حضرة “سلطان جائر” إلا من رحم ربي؛ فمعظم مدوّناتهم وشروحهم في الأحكام السياسية تصبّ في اتجاه واحد، هو اتجاه الخليفة الذي أعزّ الله به الإسلام، وجمع به شتات الأمة، كما جاء في كتب نصائح الملوك والآداب السلطانية العربية.
إشكالية الثابت والمتغير
إنّ أهمّ ما قصده بطرس البستاني؛ هو إبعاد رجال الدين عن العمل في السياسة؛ فالدين ثابت، أما السياسة “فإنّها تتعلّق بأمور خارجية غير ثابتة، وقابلة للتغيّر والإصلاح بحسب المكان والزمان والأحوال” على حدّ تعبيره.
ما تزال العلمانية مصطلحاً صادماً عند كثيرين، لكنّه مطلوبٌ لكسر أوثان الكهانة، والتدخلات السافرة للسلطات الدينية الرسمية في كلّ شيء يمسّ حياة الإنسان، حاضره ومستقبله، وهي ليست كفراً، ولا دعوة إلى كفر؛ بل هي إطار يفصل بين السياسيين وعملهم المتغير، وعلماء (رجال الدين) وعملهم في النصوص الثابتة، ورغم ذلك ستجد من يُصرّ على القول: إن “العلمانية كُفر”!
نقلاً عن حفريات