طارق أبو السعد
كاتب مصري
عند ظهور التيار الإسلاموي (كتيار فقهي متشدّد)، في مطلع القرن الماضي، عدّ أعضاؤه أنفسهم أوصياء على الأمة، فانتدبوا من أنفسهم من يشخّص الداء ويصف الدواء، زعموا أنّ أصل داء الأمة هو الابتعاد عن دينهم!! فيقول حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، في “رسالة عقيدتنا”: “أعتقد أنّ السرّ في تأخير المسلمين، ابتعادهم عن دينهم، وأنّ أساس الإصلاح العودة إلى تعاليم الإسلام وأحكامه، وأنّ ذلك ممكن لو عمل المسلمون، وأنّ فكرة الإخوان المسلمين تحقق هذه الغاية”، شخّص الإخوان المسلمون، ومعهم كثير من أبناء الحركة الإسلاموية، سبب الهزيمة التي لحقت بنا على أنّها؛ عقاب من الله للمسلمين لابتعادهم عن دينهم، وأنّ سبب ما نعانيه من ضيق في العيش، وانهزام حضاري أمام الأمم الأخرى الغرق في الحياة المادية، فيقول البنا في رسالة “إلى أي شيء ندعو الناس”: إنّ “سبب ضعف الأمة وذلّ الشعب، أنّها ترتع في النعيم، وتأنس بالترف، وتغرق في أعراض المادة”(1)؛ فعندما يتهم الإخوان المجتمع بأنّه غرق في الملذات والترف، في وقت كان يعاني أكثر من 90% من الشعب المصري الجهل والمرض والفقر، ما يعدّ نوعاً من تغييب الوعي، فالبنّا الذي لم يحدد الترف المقصود الذي كان سبباً في الهزيمة، لم يوضح كيف تسبب في الهزيمة؛ فالفقراء وقت ظهور حسن البنا، ووقت كتابة هذه المقولات؛ أي عام 1936، كان الترف بالنسبة إليهم سماع أغنية في الراديو، أو احتساء كوب من الشاي في مقهى بلدي، فهل هذا سبب للهزيمة وعقاب الله؟! ويستمرّ التشخيص الخاطئ مع مصطفى مشهور؛ الذي يذهب إلى أنّ سبب الهزيمة هو الابتعاد عن الإسلام أساساً، ففي كتابه “فقه الدعوة” يقول: “إنّ حال المسلمين وواقعهم اليوم بعيد عن تعاليم الإسلام”(2)، وفي موضع آخر يقول: “إنّ ما عليه مجتمعاتنا من سوء الحال وهبوط المستوى سببه البعد عن الإسلام وتعاليمه، مما قد يدفع البعض إلى اليأس من الإصلاح”(3)، وأصبح الكلّ يصرّ على أنّ المسلمين ابتعدوا عن دينهم، وأنّه بالعودة إلى الدين الصحيح، سيستعيد المسلمون، تلقائياً، مكانتهم في العالم.
لم يسألهم أحد: هل فعلاً ابتعد المسلمون عن دينهم؟ وما المقصود بالدين؟ وهل هناك مظاهر دينية محددة إذا حدثت في أي مجتمع نقول إنّ هذا هو السبب في الانتصار أو السبب في الهزيمة؟ وإذا كان الانتصار مكافأة من الله للفئة المؤمنة، فهل يمكن القول إنّ المنتصر هو دائماً الأكثر إيماناً؟ إنّ التشخيص الخطأ يؤدي بالضرورة إلى علاج خطأ، وهذا العلاج يعطل الطاقات ويبدّد المجهود، ويشتّت الأنظار عن العلاج الصحيح، وعلى المدى البعيد، يولّد الحسرة وانكسار الأمل، هرب الإسلاميون من تحمل مسؤولية حثّ الأمة على امتلاك أدوات الحضارة، لتكون سبباً في تحويل الهزيمة إلى انتصار، فبحثوا في بضاعتهم؛ فلم يجدوا ما يقدمونه للأمة العربية والإسلامية، غير اتهام الشعب بأنّه هو سبب البلاء وسبب الهزيمة، بابتعاد الناس عن دينهم، وحدّدوا مظاهر هذا الابتعاد بعدم اكتمال صفوف المساجد في الصلاة، خصوصاً صلاة الفجر، التي لا يحضرها إلّا قلة قليلة، ومن ثم روّجوا لمقولة “لو أنّ صلاة الفجر أصبحت كصلاة الجمعة سينتصر المسلمون”.
لم يكن الإخوان أول من فسّر الواقع المهزوم بحسب النظرة الدينية، لكنّهم كانوا أكثر من استفاد من هذه المقولة؛ ليضمنوا تواجدهم في المجتمع، وتكون مدخلاً للتجنيد، يقول حسن البنا في رسالة “هل نحن قوم عمليون”: “إنّ كلّ يوم يمضي لا تعمل فيه الأمة عملاً للنهوض من كبوتها، يؤخرها أمداً طويلاً، وإنّ في دعوة الإخوان المسلمين لو فقهها الناس منقذاً، وإنّ في مناهجهم لو اتبعتها الأمة نجاحاً، وإنّ في جهودهم لو أعينوا عليها أملاً”.
ولما آمن بتشخيصهم كثير من الناس، إمّا لانتظار الأمل الذي وعدهم به حسن البنا، أو نظراً للابتزاز الديني والعاطفي الذي مارسه الإسلاميون عليهم، فتارة يقدمون لهم الحلّ الوهمي تحت أسماء جديدة، مثل: “حتمية الحلّ الإسلامي، أو “الإسلام هو الحل”، أو “الإسلام دين ودولة”، ونتج عن الإيمان بهذا الوهم أن تغيّر سلم الأولويات عند الجماهير، فبدلاً من السعي لامتلاك أدوات العمل والنجاح، أصبح شغلهم الشاغل إثبات أنّ الإسلام هو الحلّ، وبدلاً من دراسة التاريخ ومعرفة كيف تقوم الأمم، أو سبب انهيارها، أصبحت مهمتهم الاستيلاء على الحكم، وتكفير كلّ من يقف أمامهم، وبدلاً من التعرف على العلوم الاقتصادية ودراسة كيفية النمو والتنمية؛ أصبحت مهمتهم تحريم وضع الأموال في البنوك، ووضعها في شركات توظيف الأموال الإسلامية.
أدّى الإيمان بأنّ المسلمين بعيدون عن الإسلام، إلى ظهور تيارات تدعو إلى العودة إلى الدين، كلّ بطريقته، أول هذه التيارات هو التيار المتشدد في الهدي الظاهر، فانطلقت دعوات لبس حجاب، أو إطلاق لحى وحفّ شوارب، باعتبار أنّ هذا هو الدين الذي إذا تمسّكت به الأمة انتصرت، والتيار الثاني هو تيار الإفراط في النسك والعبادات، مثل: كثرة الصيام، والقيام والوقوف خاشعين، باكين، يطلبون من الله النصر ودحر أعدائهم، أو التشبث بالصلاة في المسجد، ولو أضرّ بالعمل، وبكثرة الاعتمار.
أمّا التيار الثالث؛ فهو الذي بحث عن الانتصار في المجال العسكري، فتكونت الميليشيات المسلحة التي انقضت على المجتمع من الداخل، بحثاً عن انتصار زائف، وهي تأكل مفاصل الدولة من الداخل، ثم في نهايات التجارب اكتشف الجميع أنّ الملايين، الذين اعتمروا وحجّوا كلّ عام، وعشرات الملايين الذين ضجّت بهم المساجد في شهر رمضان، في صلاة القيام والتراويح وفي التهجد، وبكاء البكّائين في الصلوات، والحجاب المنتشر في ربوع العالم العربي والإسلامي، والجمعيات الخيرية التي تحدثت باسم الإسلام لم يحوّل الهزيمة إلى انتصار، ولم يحرر شبراً من فلسطين، ولم يخترع جهازاً مفيداً، ولم يصنع عقاراً لمريض.
ضاعت طاقات الأمة واستهلكت، فقد استنزفت قدراتنا في محاولات تطبيق العلاج الخطأ، والمحكوم عليه بعدم الجدوى (تاريخياً وواقعياً)، لا نحتاج إلى أن نشير إلى أنّنا متأخرون في كلّ المجالات، فهذه حقيقة، لكن ليس لأننا ابتعدنا عن دين الله؛ بل لأننا ابتعدنا عن الأخذ بأسباب العلمية والمنهجية لهذه العلوم.
خطورة التشخيص الخطأ ليس في أنّه خطأ؛ فالتجربة كفيلة بإثبات فشله، ومن ثم سيفرض التشخيص الصواب والعلاج الصواب نفسه، إنّما الخطورة في تلك الفئة التي تحارب من يقول إنّ هذا التشخيص خطأ، وإنّ العلاج خطأ وخطر، الخطورة في ترسيخ منهجية غير عقلية أو علمية، الخطورة في اتهام المختلفين مع الإسلامويين بأنّهم يحاربون الله ورسوله، خطورته تكمن في اعتباره حلاً مقدّساً من عند الله، وبعد فشل التجارب؛ إمّا أن تهتز ثقة الفرد بكل الحلول ويكفر بها، أو أن يتشبّث أكثر بالحلّ الوهمي، فيزيد الدنيا تعقيداً.
كان على الصفوة والطليعة المثقفة التعاون مع علماء القانون وعلماء الاجتماع والتاريخ والاقتصاد والسياسة،…إلخ، ليكشفوا زيف هذا التشخيص، ويفندوا فرضياته، فلم تكن الأمة العربية والإسلامية، في أي لحظة من لحظاتها، قريبة أو بعيدة عن الدين، لقد كان الشعب المصري الذي نبعت فيه جماعة الإخوان المسلمين شعباً طبيعياً، يؤمن بالله، وبرسوله الكريم، ويطبق الأحكام وينحاز للأخلاق، في كلّ مرحلة تاريخية بما يتناسب مع طبيعة المرحلة التاريخية وبخصائصها، والتدين الشعبي هو الأكثر استمرارية والأكثر بقاءً.
إنّ المرض الذي كانت مصر والأمة العربية والإسلامية تعانيه، هو غياب العدالة المجتمعية والعدالة الاجتماعية، والعدالة القضائية، غياب الوعي وانتشار الضبابية، غياب العلم وانتشار الخرافة، كان يجب على العلماء أن يقولوا لهم إنّ مظاهر المرض التي رصدوها خطأ وإن علاجهم خطر.
هوامش:
______________
(1) حسن البنا، مجموع الرسائل، رسالة إلى أي شيء ندعو الناس، القاهرة، دار الكلمة، ط 5، 2012، ص 49.
(2) مصطفى مشهور، من فقه الدعوة، ج الأول، القاهرة، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 1995، ص 22.
(3) المرجع السابق، ص 126.
نقلاً عن حفريات