محمد جميل أحمد
كاتب سوداني
مثَّل التفكير في مشروع الدولة “الإسلامية” في خطاب الإسلام السياسي؛ المبرر شبه الوحيد لظهور ذلك الخطاب، الأمر الذي يعني، بصورة ما، أن أي نقاش معرفي يجادل في تقض الأصول الأيدلوجية لمفهوم الدولة لدى الإسلام السياسي، هو بمثابة تدمير مباشر لمبرر مشروعية الإسلام السياسي ومرجعتيه في الوقت ذاته.
لقد كان تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في مصر عام 1928 (الجماعة التي اشتقت بهويتها الجديدة وجوداً تأسيسياً للإسلام السياسي، ومختلفاً، في الوقت ذاته، عن البنية المذهبية والمعرفية للتقليد السني في مجتمعات المسلمين) هو الرد المباشر على سقوط الرمز السياسي للإسلام التقليدي؛ أي سقوط الخلافة الإسلامية في تركيا في العام 1924. في مواجهة الدولة الوطنية الحديثة.
وبهذا المعنى لقد كان التفكير الأيديولوجي في الدولة الإسلامية عند جماعة الإخوان المسلمين، والجماعات التي تناسلت من ورائها في ظاهرتي الإسلام السياسي والجهادي، بمثابة نشاط فكري وعملي ضد مفهوم الدولة الوطنية، وهو ما أدى لاحقاً إلى انفجار التناقضات بين المشروعين.
ويكمن التناقض في مشروع الدولة لدى الإخوان في ناحيتين؛ فمن ناحية إذ يهدم الإخوان في خطابهم الأيديولوجي معنى الدولة الوطنية الحديثة؛ فيما يدعون في الوقت ذاته إلى دولة إسلامية، لا ينتبهون إلى المفارقة الواضحة التي تتمثل في أنّ ما يسمونه الدولة الإسلامية، لا يمكن أن يتعين في الواقع إلا من خلال مفهوم الدولة الحديثة، كما نشأت بعد “وستفاليا” 1648؛ أي ذات الدولة التي ينقضونها، ويظنون أنه بمجرد وصولهم للحكم ستصبح الدولة مثلاً دولة إسلامية!، ومن ناحية ثانية كيف يمكن التوفيق بين المعنى الإنساني والكوني للدين في دلالة الآية “إنا أرسلناك للناس كافة” وبين تحويل الدين إلى دولة، بشروط دولة الأزمنة الحديثة ما يعني بالضرورة أنه سنجد أنفسنا أمام “خصخصة” سياسية للإسلام!
وإذا كان التكوين الحركي لجماعة الإخوان المسلمين، أيام حسن البنا، قد تجلى في إحساس مبهم بقواعد وشعارات حول دولة الإسلام؛ فإن بروز التنظير العقدي للدولة الإسلامية الذي أسس له زعيم الجماعة الإسلامية في باكستان، أبو الأعلى المودودي، في كتابه “المصطلحات الأربعة” أثناء مواجهة الدولة الاستعمارية “بريطانيا” في شبه القارة الهندية، هو ما طورّه عربياً، بعد ذلك ـ منظّر جماعة الإخوان المسلمين في مصر، سيد قطب، من خلال بناء مفهومي جديد تمثل في مصطلح “الحاكمية” الذي أخرج له سيد قطب تأويلات معاصرة أسقطها في إطار تصوري عقدي كان له الأثر الكبير في التشويش الآيديولوجي على مفاهيم الجماعات الإسلامية اللاحقة؛ ففي المزج بين ما هو عقدي، وبين ما هو من الفروع حيال قضية الحكم، لعبت الأيديولوجيا دوراً بارزاً، وأفرزت واقعاً جديداً نتجت عنه دورة العنف الذي مارسته، ولازالت تمارسه، الجماعات الإسلامية في سبيل الاستيلاء على السلطة من ناحية، والبراءة من أنظمة حكم الدولة الوطنية الحديثة (التي هي امتداد لمشروع الدولة الاستعمارية) من ناحية ثانية.
ونتيجة للعنف الذي مارسته الدولة العربية الحديثة، ما بعد الاستعمار، وهي كانت دولة عسكرية قمعية بامتياز، تجاه تلك التحولات الحركية العنيفة والمتطرفة لدى جماعات الإسلام السياسي، انفجرت الأوضاع منذ السبعينات في المنطقة العربية، وأصبح لمفهوم الحاكمية ــ كما صكه سيد قطب ـــ دوراً مركزياً في الحراك السياسي لتلك الجماعات وأساليب العنف التي صاحبت نشاطها.
يمكننا القول إنّ الأدلجة العنيفة التي توفر عليها مفهوم الحاكمية، في تطبيقات جماعات الإسلام السياسي، هي الوجه الآخر لمأزق المفهوم الذي شكل وعيه التباساً بين العقدي والسياسي والفقهي لدى تلك الجماعات، وأن الخطأ الذي انعكس في ذلك المفهوم، هو ثمرة قراءة أيديولوجية مجردة أسقطت تأويلها العقدي على واقع الحالة الاستعمارية، وواقع الدولة العربية الحديثة كامتداد لذلك الإرث الاستعماري، بعيداً عن الانهمام بقراءة معرفية تدرك خطورة تداعيات مثل ذلك المفهوم، في عالم معقد ومركب كعالمنا الحديث.
ذلك أنّ خطورة تأويل مفهوم “الحاكمية” أصبحت اليوم، عبر العنف الهائل الذي تمارسه الجماعات الإرهابية؛ كداعش مثلاً، والتناقضات التي بلغ انفجارها حده الأقصى، أكبر دلالة على جناية ذلك المفهوم على السلم الأهلي لمجتمعات المنطقة العربية والإسلامية ؛ ما يعني أن مفهوم “الحاكمية”، كما صوره سيد قطب، كان في الحقيقة وصفة أيديولوجية خطيرة وملتبسة وجَّهت جماعات الإسلام السياسي نحو عنف عقدي قرأ علاقته بالمجتمعات العربية والإسلامية بعيداً عن حيثياتها في واقع العالم الحديث، والترتيبات التي شكلتها الحداثة السياسية منذ 4 قرون على الأقل.
ومن هنا؛ فإنّ الاسقاط الخطير لذلك المفهوم (أي مفهوم الحاكمية) في ظل واقع كهذا، وبعيداً عن النظرة المعرفية لقراءة العالم من داخله عبر نظرية مقاصدية إسلامية جديدة، سيظل هو الوجه الآخر لقناع الأيديولوجيا التي انفجرت مقاعيلها، ولا زالت، في التطبيقات المتوهمة والخطيرة لجماعات الإسلام السياسي حيال فهمنها لمفهوم الحاكمية، كما أنتجه المودودي وسيد قطب وفق تنظيرهما السياسوي للإسلام في وجه الدولة الاستعمارية والدولة العربية ما بعد الاستعمار!
هكذا سيظل المأزق متجدداً إلى ما لانهاية، في سعي وحراك جماعات الإسلام السياسي حيال مقاربتهم للدولة والحاكمية؛ مادامت مرتهنة للتنظيرات الأيديولوجية المفخخة للمودودي وسيد قطب. ما يعني أن تطبيقات العنف السياسي والإرهابي التي تتولد عن حراك تلك الجماعات في سعيها للسلطة لا يمكن أن تكف عن إعادة إنتاج نفسها إلا من خلال تفكيك معرفي لوهم الأيديولوجيا في مفهومي “الحاكمية” و”الدولة الإسلامية”.
نقلاً عن حفريات