ياسر عبدالعزيز
في الشهر الماضى، اندلعت أزمة سياسية كبيرة في ليبيا، نجمت عنها تداعيات مؤثرة، عندما أعلن وزير الخارجية الإسرائيلى إيلى كوهين أنه التقى نظيرته الليبية نجلاء المنقوش، في إيطاليا، في لقاء سرى، استهدف البحث في سبل إنشاء علاقات بين البلدين.
لم يرض رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو عن هذا الإعلان، وصدرت عنه تصريحات يمكن أن نفهم منها أنه يطلب إلى بقية أركان حكومته عدم الإعلان عن مثل هذا الاجتماعات من دون موافقته شخصيا.
كما أن الساسة الغربيين والإسرائيليين الذين تفهموا موقف نتنياهو، وشاركوه ضيقه من إعلان خبر الاجتماع، انطلقوا في دعمهم لهذا الموقف من فكرة «عدم تصدير الضغوط على الدول العربية الذين يحاولون إنهاء المقاطعة مع إسرائيل، وإقامة علاقات طبيعية معها».
يبدو أن هذا أمر مفهوم في إسرائيل ودول الغرب، فمنذ السبعينيات الفائتة تتوالى الأخبار عن لقاءات سرية بين أطراف عربية وإسرائيلية، تتحول إلى «مبادرات» علنية، وتتلوها في الغالب عمليات تطبيع للعلاقات. وربما يعرف الإسرائيليون أن قدرا من السرية في مراحل التواصل الأولى يضمن لهذه اللقاءات وما يتلوها من مبادرات وقرارات فرصة أكبر للنجاح. لا يمكن القول إن هذا الطريق كان ممهدا أو سهلا، إذ تسببت بعض المبادرات التي كسرت «الجدار» الذي يفصل بين العرب والإسرائيليين (بحسب وصف الرئيس السادات) في تحولات ضخمة، وتكاليف موجعة. لكن تلك التكاليف اتخذت منحى تنازليا منذ مقتل الرئيس السادات نفسه، وباتت مسألة تجاوزها أسهل وأعباء تحملها أقل باطراد.
لقد تصاعدت الضغوط السياسية والأمنية ضد حكومة «الوحدة» الليبية التي يقودها عبدالحميد الدبيبة وتهيمن على غرب البلاد، وعززتها أيضا احتجاجات وتظاهرات، أظهرت التمسك بضرورة إدامة مقاطعة إسرائيل، والالتزام بالقانون الليبى الصادر في العام 1957، والذى يجرم أي تعاون أو تعامل مع الجانب الإسرائيلى.
وتحت وطأة الضغوط العارمة، تمت إقالة الوزيرة المنقوش، ولم تسع الحكومة إلى تسويغ موقفها أو الدفاع عنه، في ظل تصريحات إسرائيلية أكدت أن هذا اللقاء جرى عبر «تنسيق على أعلى مستوى» بين المسؤولين في البلدين.
لم تقف حكومة «الوحدة» الليبية في وجه العاصفة، بل فضلت الانحناء قليلا لتفويتها، لكن ملف التطبيع الليبى- الإسرائيلى لن يُغلق على الأرجح، بل سينتظر مناسبة مواتية للخروج إلى العلن مرة أخرى. وعندما نرصد هذا التطور السياسى الليبى في ملف النظر إلى إسرائيل واعتبارها والتعامل معها، سيكون لزاما علينا أن نربطه بتطورات سياسية وأمنية واجتماعية وثقافية عديدة حدثت في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في العقد الأخير.
وأعادت صياغة العديد من السياسات والتصورات التي ترسخت لعقود طويلة بوصفها ركائز ومبادئ، تحرسها دساتير وقوانين وثقافة شعبية وسياسية واسعة الانتشار والتأثير. وثمة ملامح رئيسية للتطورات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تتفاعل راهنا في بلدان منطقة الشرق الأوسط، وهى ملامح تتعلق بنزعة سياسية براجماتية، لا تقيم وزنا كبيرا للمرتكزات الأيديولوجية، بقدر ما تُقدر الاعتبارات العملية، والمكاسب السياسية والاقتصادية الملموسة.
وقد ترافق مع هذا الملمح بروز ملامح أخرى تتعلق مثلا بحرية المرأة، ودورها، وحضورها في المجال العام، وتمكين الشباب على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والإدارية، وتراجع دور الإسلام السياسى في تأطير الحالة الاجتماعية.
وعندما ننظر إلى التطورات الحاصلة في كل من تركيا وإيران ودول الخليج العربية ومصر، وغيرها من بلدان المنطقة، ندرك أننا بصدد تحول جوهرى، يتخذ من بعض المفاهيم والقيم التي تم إرساؤها عالميا، والتى تُنحى الاعتبارات الأيديولوجية، عنوانا لتغيير مطلوب.
تحدث تلك التطورات بإرادة ودعم وقرارات تأتى من القيادة السياسية في أحيان عديدة، لكن ما يجعلها أكثر تجذرا في البيئة السياسية والاجتماعية والثقافية، وأكثر قابلية للاستدامة، أنها تحظى بتأييد قطاعات من الجمهور الأصغر سنا، والمرتبط بمواقع «التواصل الاجتماعى».
والأقل احتفاء بالقيم المحافظة سياسيا واجتماعيا. لذلك، فنحن نشهد تحولات جذرية في ملف العلاقات الثنائية بين دول عديدة في المنطقة ودول إقليمية أخرى ناصبتها العداء أو النفور لعقود على قواعد «مبدئية»، ونشهد أيضا تحولات اجتماعية وثقافية متسارعة، وعنوان هذا التحول الكبير هو «القليل من الأيديولوجيا والكثير من البراجماتية والمصالح العملية».
لم تنته قصة «التطبيع» الليبية حتى هذه اللحظة بطبيعة الحال، لكن متابعة ما سيجرى لاحقا في هذا الصدد، ستوضح، إلى حد كبير، مدى صحة هذا العنوان، ومدى قدرة الساسة الليبيين على إقناع الجمهور والفرقاء السياسيين به.
نقلاً عن “المصري اليوم”