سامي أبو داود
كاتب أردني
تبدو صورة المجتمع الإسلامي تاريخياً، في كتب التراث، على غير ما ينقلها دعاة الإسلاموية في أدبياتهم؛ فالمتتبع لكتب الأدب العربي، وكتب التاريخ، يجد وصفاً وانعكاساً، حقيقيَّين لما كانت عليه حياة المجتمع آنذاك؛ حيث عاش أبناء المجتمع الحياة وفق شروطها الإنسانية، لا وفق محددات وضعها رجال دين، أو فقهاء نصوص، فعلى سبيل المثال: إذا أمعنا النظر في أحد أهم المراجع التراثية، وهو كتاب “الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني، الذي وصفه ابن خلدون بقوله: “وقد ألّفَ القاضي أبو الفرَج الأصفهاني، وهو ما هو، كتابه (الأغاني) جمع فيه أخبارَ العرب وأشعارَهم وأنسابَهم وأيامَهم ودُولهَم، وجعل مبناه على الغناء في المائة صوت التي اختارها المُغنّون للرّشيد، فاستوعب فيه ذلك أتمّ استيعاب وأوفاه. ولعمري إنّه ديوان العرب وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كلّ فنّ من فنون الشّعر والتّاريخ والغناء وسائر الأحوال، ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه، وهو الغاية التي يسمو إليها الأديبُ ويقفُ عندها، وأنّى له به”.
ولقد تضمن كتاب الأغاني مرويات تاريخية عن الأحوال الاجتماعية، والسياسية، والفكرية، في تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده، وصولاً إلى عصر الأصفهاني، في القرن الرابع الهجري؛ حيث يلحظ الدارس لهذه الموسوعة، أنّها ترسم صورة تاريخية بشرية، لتجربة إنسانية خالصة للمجتمع العربي والإسلامي حينذاك، كما أنّها تُظهر لنا طبيعة الحياة التي عاشها أسلافنا، وهي على ما يبدو أفضل من اليوم؛ بسبب انسجامهم مع ذاتهم، التي لم تكن تعاني من ذهنية التحريم، أو ثنائية الحلال والحرام التي أقحمها، وبأسلوب فِجّ، الناطقون بلسان السماء في عصرنا الراهن.
ورغم الجهد الخلّاق في هذا السفر الكبير، إلّا أنّه لم يُعجب الموقّعين عن ربّ العالمين، في الماضي والحاضر؛ فقد هاجم هؤلاء الأصفهاني، واتّهموه بالفسق وتسويغ شرب الخمر، ونقل أخبار المجون والمنكَرات..إلخ، وذلك كلّه؛ لأنّهم لم يتقبلوا فكرة وصف أحوال المجتمع العربي والإسلامي (كمجتمع بشري)؛ فهم يظنون، أنّ هذا المجتمع كان ملائكياً، ليس فيه فرح بالحياة أو ولع بها، على النحو الذي عاشته بقية المجتمعات البشرية، لذلك رفض هؤلاء كل الكتب والمؤلفات التي سطرها جهابذة الحضارة العربية والإسلامية، عن أحوال مجتمعات هذه الحضارة، ومسيرتهم في التاريخ.
فالصورة التي أراد، ويريد، حراس الاعتقاد تكريسها، تتمثل في الأطروحة الآتية: إنّ المجتمع العربي، بعد ظهور الإسلام، تحوّل إلى كائنات نورانية، لا تنتمي لعالم البشر؛ حيث أصبح أفراده لا يسمعون الموسيقى، ولا يخالطون النساء، ولا يتقاتلون على الحكم، فهم رُهبان بالليل فرسان بالنهار!، وقد انتقلت هذه الأدلجة وراثياً، إلى الإسلامويين في عصرنا، فقاموا بتأليف الأدبيات الدينية التي تحث على التربية الطهرانية، التي تلغي نوازع الإنسان، وحقّه في مباهج الحياة، وذلك كله في سبيل الآخرة؛ لأنّ الدنيا جنة الكافر!
ولا يعدّ كتاب الأغاني الوحيد الذي يصور أحوال المجتمع العربي والإسلامي على حقيقتها وصورتها؛ بل أغلب المؤلفات التي نقلت أخبار حركة ذلك المجتمع، تحدثت باللسان ذاته، والحال نفسها، التي نقلها الأصفهاني، وهي على النقيض ممّا ورد في كتب الوعَّاظ والمتفقّهين، الذين رسموا صورة مغايرة، تتمثل في مجتمع عربي وإسلامي، ملائكي لا بشري.
وهذا كله، يطرح مسألة التزييف الذي مارسه، ويمارسه، الناطقون بلسان المقدس قديماً وحديثاً، وأثر ذلك في مجتمعاتنا التي أصبحت تعاني من الفصام النكد، بين الواقع المعيش الذي نتج عن التطور التاريخي، وتقدم الحضارة الإنسانية، والمثال الذي نسجه هؤلاء في عقولهم وكتبهم. فالمسلم اليوم يعاني، بسبب التربية والبرمجة الأيديولوجية التي رسّخها الإسلامويون، وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمون، عندما تحكّموا في تأليف المناهج التربوية المدرسية والجامعية، وكتب الوعظ والزهد الدينية التي تذمّ الدنيا، وذلك كلّه في سبيل الاستحواذ على الدنيا والآخرة معاً.
إنّ حجم التزييف والتدليس كان كبيراً، وأدلجة التاريخ وتديينه، وصلا إلى مستويات غائرة في الوعي واللاوعي، بحيث تشكّل عقلاً جمعياً، على مقاس ومقاصد حرّاس الاعتقاد، أعاق مجتمعاتنا عن تحقيق مشروعات التحديث في المجال الاجتماعي والثقافي؛ بل وأبقاها محكومة بسيرة السلف، التي اخترعها لنا الوعاظ والمتفقهون، على مدى قرون من الهندسة العقلية والبرمجة الذهنية.
نقلاً عن حفريات