أحمد سالم
كاتب مصري
يمثل الانفتاح على الآخر المغاير في الثقافة إحدى سمات العقل الفلسفي في الإسلام، ولكن هذا الانفتاح الذي يمثل سمة رئيسية لهذا العقل سرعان ما دخلت عليه سمة مغايرة سلبية هي التبرير؛ حيث أسهمت سيطرة الفقه على المجال العام في حضارة الإسلام، وانتشار سطوته ومركزيته في هذه الثقافة، إلى انتشار الطابع التبريري للممارسة العقلية عند فلاسفة الإسلام، هذا العقل الذي يبرر مشروعية العمل بالفلسفة في ثقافة دينية الطابع، فحين ترجم التراث الفلسفي اليوناني إلى اللغة العربية، طُرحت العديد من الإشكالات الثقافية على العقل الفلسفي؛ هل معرفة تراث السابقين والتعلم منه أمر مشروع من الناحية الدينية أم لا؟ وهل الفلسفة مشروعة ومبررة من الناحية الدينية أم لا؟ وهل ثمة تعارض بين الدين والفلسفة أم يمكن التوفيق بينهما؟ ومن ثم كانت إشكالية علاقة العقل بالنقل، أو الدين بالفلسفة، أو الحكمة والشريعة هي إحدى الإشكاليات الحاكمة في الثقافة الإسلامية في شتى المجالات المعرفية، والتي تكشف عن سيادة العقل التبريري لدى فلاسفة الإسلام.
مواجهة الفلاسفة للفقهاء
ويمكن أن نبرر بزوغ الطابع التبريري للعقل الفلسفي بسبب سطوة الفقه والفقهاء على المجال العام، وهو ما دعا الكندي أنّ يهاجم الفقهاء كأعداء الفلسفة، والذين ينتقدون نقل كتب اليونان إلى العالم الإسلامي، ويكفّرون الفلسفة، ويرى أنّ هؤلاء الفقهاء هم أهل غربة عن الحق، ويصفهم بأنّهم “المتسمون بالنظر في دهرنا من أهل الغربة عن الحق، وإن تتوجوا بتيجان الحق من غير استحقاق، لضيق فطنهم عن أساليب الحق، وقلة معرفتهم بما يستحق ذوو الجلالة في الرأي، والاجتهاد في الأنفاع العامة الكلية الشاملة لهم، ولدرانة الجسد المتمكن من أنفسهم ..، والحاجب لأسباب فكرهم عن نور الحق، ووضعهم ذوي الفضائل الإنسانية التي قصروا عن غيها، وكانوا عنها في الأطراف الشاسعة، بموضع الأعداء دفاعاً عن كراسيهم المزورة التي نصبوها من غير استحقاق، بل للترؤس والتجارة بالدين، لأنّ من تاجر بشيء باعه، ومن باع شيئاً لم يكن له، فمن تاجر بالدين لم يكن له دين، ويحق أن يتعرى من الدين من عاند كنية علم الأشياء بحقائقها أو سماها كفراً”، وفي هذا الهجوم يبدو واضحاً مدى دور الفقه السلبي من الفلسفة، والذي كان له دور في تشكل البعد التبريري في العقل الفلسفي.
الانفتاح على الآخر ضرورة فلسفية
ويقرب الكندي العلاقة بين الدين والفلسفة، ويرى أنّ غرض كل منها إدراك الحق، وإن اختلفت وسيلة كل منهما عن الآخر، مدافعاً عن الفلسفة مهما كان حظها في إصابة الحق؛ فالحكمة ضالة المؤمن يطلبها، ويفرح بها، ويشكر أصحابها، فينبغي أن يعظم شكرنا للآتين بيسير الحق فضلاً عمن أتى بكثير من الحق؛ إذ أشركونا في ثمار فكرهم، وسهلوا لنا المطالب الخفية بما أفادونا من المقدمات المسهلة لنا سبيل الحق، وذلك لأن الحضارة الإنسانية لا وطن لها، وهي عمل تراكمي تسهم فيه كل الأمم، ولهذا ينبغي ألا نستحسن الحق، واقتناء الحق من أين أتى، وإن أتى من الأجناس القاصية عنها والأمم المباينة لنا، وهنا نلاحظ سمتي العقل الفلسفي، وهو الانفتاح على الآخر من ناحية، وضرورة تبرير مشروعية الفلسفة بقصد سعيها المستمر في البحث عن الحق كهدف أسمى، وهكذا كان العقل الفلسفي ممزقاً بين أهمية الانفتاح على الآخر، وسعيه نحو تبرير هذا الانفتاح من الناحية الدينية والفقهية .
ابن رشد الفقيه يسبق الفيلسوف
وبعد ما تعرضت له الفلسفة على يد الغزالي وجدنا ابن رشد يبرر مدى مشروعية الفلسفة من الناحية الدينية والفقهية، فبدأ فيلسوفنا يعمل كفقيه ليبرر على أنّ الشريعة توجب النظر الفلسفي، كما توجب استعمال البرهان المنطقى لمعرفة الله تعالى وموجوداته، وساق لهذا وذاك دليلاً من القرآن الكريم، وهو قوله تعالى (سورة الحشر 59/2): “فاعتبروا يا أولى الأبصار”، مبيناً أنّ “الاعتبار” هنا ليس إلا استنباط المجهول من المعلوم، وهو القياس الفلسفي أو المنطقى المعروف. وعلى ذلك يكون الدين قد حث وأوصى على عمل الفلسفة؛ لأن الله تعالى يأمر بالبحث عن الحقيقة.
*أسهمت سيطرة الفقه على المجال العام في حضارة الإسلام بانتشار الطابع التبريري للممارسة العقلية عند فلاسفة الإسلام*
ويقرر ابن رشد أنّه إذا تقرر أنّ الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها، وكان الاعتبار ليس شيئاً أكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه، وهذا هو القياس أو بالقياس، فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي. وبيّن أنّ هذا النحو من النظر الذي دعا الشرع إليه وحثّ عليه هو أتم أنواع النظر بأنواع القياس وهو المسمى برهاناً، ويبرر ابن رشد أهمية القياس العقلي البرهاني- الأرسطي الأصول- كالقياس الأصولي الفقهي، وذلك لأن القياس البرهانى هو أتم أنواع البرهان.
ولأنّ البرهان ذو أصول أرسطية، كانت دعوة ابن رشد واضحة في ضرورة الانفتاح على ثقافة الآخر، وضرورة النقل عنهم والتعلم منهم فيقول: إذا كان القياس العقلي يعد ضرورياً فإنه يجب علينا الاستعانة بمن سبقنا، سواء كان من نفس الملّة أو غيرها. إذ الآلة التي تصح بها التزكية لا يدخل في صحة تزكيتها كونها آلة المشارك لنا في الملّة أو غير مشارك، إذا كانت فيها شروط الصحة، وأعني بغير المشارك من نظر في هذه الأشياء من القدماء قبل ملة الإسلام، وإذا كان الأمر هكذا، وكان كل ما يحتاج إليه من النظر في أمر المقاييس العقلية قد فحص عند القدماء أتم فحص، فينبغي أن نضرب بأيدينا إلى كتبهم، وننظر فيما قالوه من ذلك، فإن كان كله صواباً قبلناه منهم، وإن كان فيه ما ليس بصواب نبّهنا عليه؛ فالنظر البرهاني لا يؤدي إلى مخالفة ما ورد به الشرع؛ إذ الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له، وهذا المبدأ يعد فيما نرى مبدأ هاماً؛ إذ فيه دعوة إلى البحث عن الحقيقة كحقيقة وبصرف النظر عن كونها إسلامية أو غير إسلامية، أو كونها عربية أو يونانية، كما تتضح أهميته حين ندرك أنّ من أسباب الهجوم على المنطق أنّه أتى من اليونان، وأنّ صاحبه كافر.
*مايزال العقل الفلسفي الإسلامي إلى اليوم ممزقاً بين رغبة الانفتاح على ثقافات الآخر والعداء المستمر من العقل الديني*
وخلاصة القول إنّ العقل الفلسفي الإسلامي قد اتسم بالرغبة الدائمة بالانفتاح على الآخر، وضرورة التعلم منه ولو كان مغايراً له في الدين والثقافة والحضارة، طالما أنّ في تراث الآخر جانباً من البحث عن الحقيقة، وطبيعة انفتاح العقل الفلسفي على الآخر تكشف لنا عن مدى تسامح هذا العقل وعدم جموده أو انغلاقه، وإننا نفسر بزوغ سمة الطابع التبريري إلى الهجوم الكاسح الذي واجهه الفلاسفة من قبل الفقهاء، وتشويههم للفلسفة وجهود الفلاسفة، ورفضهم الانفتاح على تراث الآخر والثقافات المغايرة باعتبارهم ينظرون إلى حضارة الإسلام وثقافته باعتبارها مكتملة بذاتها.
ومازال العقل الفلسفي الإسلامي إلى اليوم ممزقاً بين رغبته في الانفتاح على ثقافات الآخر المغاير، والعداء المستمر من قبل العقل الفقهي والديني له، ما يجعله يتجه لتبرير ممارساته العقلية ومغامراته الفكرية من الوجهة الدينية، والسؤال المهم: متى يتحرر العقل الفلسفي من أسر الفقه، ومن سيطرة الطابع التبريري عليه؟
نقلاً عن حفريات