مروان العياصرة
كاتب أردني
الكتابة عن “الإخوان المسلمين، كتابة ملتبسة وشائكة، ومتزاحمة بكثير من الأفكار التي قد تأخذنا خارج المسافة النقدية المتوازنة واللازمة لتناول موضوع مثل هذا، سواء أكان هذا التناول على مستوى الأفكار أو على مستوى الممارسة ومستويات التطبيق، فليست الأفكار وحدها هي البرهان، وليست الممارسة وحدها هي الدليل على التحول إلى ما بعد إسلاموي، إنما هما الاثنان معاً، فلا أفكار الرئيس المصري الإخواني السابق محمد مرسي، كانت دليلاً على تحول جماعة الإخوان المسلمين من الجماعة إلى الدولة ولا ممارساته في الفترة التي أمهله فيها القدر السياسي كانت كذلك برهاناً.
إنّ تاريخ الجماعة المليء بالمناكفات ومبادئها القائمة على فكرة “الخيرية” الوحيدة التي يجب أن تجتاح العالم، وأدبياتها وخطابها الداخلي، المشحون بالتصورات العمياء، لا يمكن أن تسمح لها بالتحول نحو الدولة، ما لم تنجز إعادة إنتاج عميقة لجوهرها وإعادة تجديد صعبة لكل مكوناتها من أسفلها إلى أعلاها، ولا أظن أنّ هذا يمكن أن يحدث أو يتحقق بالسهولة التي نتوقعها أو تتوقها الجماعة نفسها، إلا إذا حلَّت نفسها وأعلنت تفكيك استراتيجيتها التاريخية القادمة من نقولات مهزوزة أو مرتجفة أو غير ثابتة، كما أنّها تنطوي على شعور جمعي تاريخي نمت فيه مدركات أفرادها وتصوراتهم باتجاه تخليق مبدأ الجماعة الدولة، وليس الدولة فحسب، فهم ينظرون على أنهم وحدهم الدولة.
المسافة المعرفية
وعلى خلاف ما يراه صاحب كتاب “ما بعد الإسلاموية” فرنر شيفاور الأنثروبولوجي الثقافي الألماني، أنّ الإسلاموية سوف تتجاوز نفسها بعد أن تحتك بالديمقراطية، فهذا قد يبدو مقبولاً في تناوله لظاهرة منظمة “ميلي غوروش” التركية، لكنه في واقع حال “جماعة الإخوان المسلمين”، لا يمكن أن يبدو منطقياً أو حقيقياً.
وإذا كان ( فرنر شيباور) يعتقد أن منظمة ميلي غوروش استطاعت أن “تتجاوز نفسها بعد أن احتكت بالديمقراطية التداولية الحقيقية، وبعد أن رأت قدرة وإمكانية الآلة الديموقراطية على إنجاز الأفكار نظرياً وإنجاحها عملياً، كما استطاعت أن تعيد إنتاج خطابها الكلاسيكي وتحتوي ألفاظه ومفرداته الفظة وتكسبها طابعاً جديداً قابلاً للحياة في مجتمع ديمقراطي علماني، إلا أن كل هذا لا يمكن أن يتقاطع مع فكرة الإخوان المسلمين وجمهوريتها النظرية المقامة في أدمغة أتباعها، ربما لأن “غوروش” لديها مسافة معرفية تفصلها عن الوسط المعرفي الناقل للأدبيات والمفهومات الفكرية الجامدة، والصلبة المؤسسة لبنى الإخوان الثقافية تحت شعار “الجماعة المختارة”، التي تبدو غير قادرة على التعاطي الحر مع الأفكار الجديدة، وغير القادرة على صناعة مقاربات جادة وحقيقية مع تيارات الفكر والسياسة، فهي -أي الجماعة- تميل دوماً مع كل هذه التيارات بحكم الجاذبية المعرفية القائمة على الاتهامية والشك والالتباس، إلى حالة مرهقة من تمثُّل العداء وصناعة الأعداء.
حجر الرحى
كنت أقول إنّ الخطاب الأول الذي ألقاه الدكتور محمد مرسي بعد إعلانه رئيسا لمصر الثورة، كان خطاباً علمانياً قومياً وطنياً إسلامياً، مركبا من كل هذه الدلالات التي كان من الصعب أن تنوجد في مرحلة سابقة، لكن هذا كان من قبيل التحوّط الخطابي المرحلي، ومما لا يعطي مؤشراً واضحاً على قدرة الجماعة على إنجاز تحولها إلى الدولة.
وقد ذكرت أو وصفت الخطاب بأنه علماني تجاوزاً للمؤشر التفسيري التقليدي للعلمانية؛ إذ لم تعد العلمانية في النظر العميق خطراً يتهدد الدين، بل أصبحت قيمة بنيوية عميقة تتجاوز حدود الفكرة المحنطة أعني (فصل الدين عن الدولة)، والتي يستبقيها الفكر ما بعد الإسلاموي في متحف الكلاسيكيات التعريفية للعلمانية، ولست في مجال بيان أسباب وأوجه تخطيء هذه الفكرة المحنطة بما حمَّلها الإسلامويون من وهم المساس بالدين، وأكتفي هنا بما حاوله ( جون هوليوك ) القادم من نهايات القرن الثامن عشر الذي يعتبر أول من نحت مصطلح العلمانية بمعناها ومبناها الدقيق؛ إذ حاول أن يجعله محايداً تماماً عن المسألة العقدية، مؤمناً بإمكانية (إصلاح الفرد من دون التصدي لقضية الإيمان سواء بالقبول أو الرفض)، وهذا ما لا تُجوِّزه الجماعة، ومما لا تجرؤ طبقات الوعي الإخواني على تحييده، فالفرد في الوعي الإسلاموي، مؤسس حاضراً ومصيراً على طريق الهداية الإسلامية، وليس على طريق الخيرية الإنسانية الأكثر اتساعاً وعمومية وشمولاً.
إنّ الخطأ التاريخي الصلب الذي يتمترس في الوعي الإخواني مثل حجر الرحى، أن أدبياتهم وتصوراتهم ألزمت نفسها حجة “النقل” وتركت حجة “العقل” وكرست مفهومات ما عُرفت بأركان البيعة التي تتمثل بـ”الفهم والإخلاص والعمل والجهاد والتضحية والطاعة والثبات والتجرد والأخوة والثقة”، وهي على الترتيب بحيث لا يمكن تفسير معنى الفهم الذي جاء أولاً بمعزل عن معنى الطاعة، وكأنهم -يقول أحد الشباب- كانوا يقولون لنا “الفهم لك، لكن الطاعة للجماعة، فعليك أن تلتزم قانون الطاعة وإن اختلف الفهم”.
هذا هو حجر الرحى الذي طحن كثيراً من الأدمغة تحته، وفتت وعيها، وجزأ تصوراتها، ووضعها في “غربال” الطاعة، والثقة، فما علق في الثقوب فهم المتساقطون على الطريق، وما تسرب منها فهم خلصاء المحن والابتلاءات.
فعن أي دولة يمكن أن نتحدث؟!
نقلاً عن حفريات