ماجد الداعري
قد لا يصدق البعض ان الدكتور الجراح عبدالحميد شكري، استاذ المخ والأعصاب بكلية الطب جامعة عدن، والقيادي الجنوبي البارز منذ الانطلاقة الأولى للحراك الجنوبي، تعرض لسلسلة ملاحقات أمنية واعتقالات وصلت إلى حد اختطافه من غرف العمليات الجراحية بأكثر من مستشفي بعدن وهو يجري عمليات جراحية مجانية لشباب وثوار الحراك الجنوبي، وان مجانية هذه العمليات اعتبرت بمثابة تهمة إجرامية بحقه، لتعد أشرف تهمة يمكن أن توجه لجراح واستاذ جامعي بدوافع سياسية، بعد أن فشلت كل محاولات السلطة لاسكاته واثنائه عن مواقفه النضالية الجنوبية سواء باقصائه اكاديميا من تولي اي منصب بجامعة عدن أومحاولة تشويه سمعته طبيا خلال عمله في قسم المخ والأعصاب بمستشفي الجمهورية أو بأساليب الترغيب والترهيب التي يعد الجراح الصبيحي عبدالحميد شكري اكثر اكاديمي جنوبي تعرض لسلسلة طويلة منها، عبر الملاحقة والاختطاف والاعتقال من قبل قوات النظام البائد ومحاولة تكييف التهم السياسية ضده ونصب محاكمات كيدية له على خلفية مواقفه الجنوبية ونشاطه الداعم للحراك واشعال الثورة الجنوبية من اللحظات الأولى لاندلاع فعاليات ومظاهرات الحراك الجنوبي 2006-2007 بعدن.
وهنا اتذكر مواقفا عديدة جمعتني واياه في الساحات واروقة المستشفيات التي كان يحرض على تسخير نفسه ومهنته الجراحية- وبكل إخلاص وتفان وقناعات شخصية- لعلاج كل جرحى الحراك الجنوبي وخاصة من ذوي الاصابات الرأسية والعلوية لقوات الأمن التي كانت تقمع بالرصاص الحي ودون أدنى رحمة بالمتظاهرين العزل في ساحة العروض الهاشمي على وجه الخصوص اضافة لبقية الجرحى القادمين الى عدن من بقية مناطق الجنوب.
لا يمكنني هنا انصافه بمنشور او حتى سلسلة تقارير لتلخيص دوره النضالي والطبيي والأكاديمي معا، لكن مايهمني اكثر هو إيصال فكرة تميزه عن بقية مناضلي الساحة الجنوبية بكونه صاحب أشرف تهمة يمكن توجيهها لجراح مناضل واستاذ جامعي وهي تهمة علاج ومجارحة أنصار الحراك الجنوبي مجانا ولماذا.. ومن الذي يدفع لك بالمقابل.. ومادخلك بهم وعلاقتك بهؤلاء المخربين الفوضويين والخارجين عن القانون وغيرها الكثير من الأسئلة الأمنية التحقيقية معه والتي كان يكتفي بالابتسامة الساخرة في رده على أكثرها والاكتفاء بالقول: ان هذا واجبي الطبي والإنساني والأخلاقي والذي لا ابتغي من ورائه أجرا من مخلوق او بشر.
أتذكر صباح يوم جنوبي دام ٢٠٠٧م تقريباً، حيث قمعت قوات الأمن المركزي وبكل دموية، تظاهرة بساحة العروض بالرصاص الحي وقتل وجرح العشرات يومها من المتظاهرين السلميين وعراة الصدور، وكان على الدكتور شكري ان يوقف كل اعماله اليومية والتزاماته الطبية وان يذهب لمستشفي النقيب حيث بكتض بعشرات الجرحى ممن لا منقذ لهم بعد الله سواه،ولا مقدرة لهم او لاهلهم على دفع قيمة علاج لهم فكيف بعمليات جراحية إنقاذية عاجلة.
وماهي إلا لحظات وإذ بالجراح شكري يدخل المستشفي بكل خطوات مستعجلة لإنقاذ اكبر قدر ممكن من المصابين ودون اي خشية من كونه ملاحق أمنيا وقد يتم اختطافه مقتنعا بأن هذا واجب مقدس لا يحتمل التأخير ومعتقدا احيانا أخرى ان مهنته الانقاذية الملحة لأرواح بشر وبدلة وغرفة العمليات الجراحية قد تنجياه من خطر الاختطاف والاعتقال من المستشفي.
غير أن عسكر الأمن كانوا يومها أحقر من كل الاعتقادات واقبح من كل التصورات، بعد أن اخرجوه عنوة من غرفة الجراحة وهو بلباسه ورجموا به خلفية الطقم العسكري بكل بجاحة المجرمين وصلف واستعلاء الغزاة المحتلين بالفعل كما اقتنعت يومها تماما بذلك وانا اراقب ماحصل له من جوار المستشفي الذي كان يكتض بجموع كبيرة من البشر في بوابته، ولكنهم للأسف لم يحولوا دون احتطافه، بسبب شدة الهجمة القمعية الإجرامية لقوات الأمن المستنفرة يومها.
ومما اتذكره شخصيا أيضا ان نيابة الصحافة والمطبوعات بصنعاء وجهت لي عند محاكمتي ٢٠٠٩ بخمس قضايا نشر صحفي، أكثر من سؤال حول علاقتي بالدكتور عبدالحميد شكري وحدود معرفتي به والشخصيات الجنوبية التي يتعامل معها بالخارج وكان ردي قاطعا بعدم معرفتي بأي تعامل له مع شخصيات خارجية اطلاقا وان معرفتي معه لا تتجاوز علاقة صحفي بدكتور جراح وقيادي في الحراك الجنوبي قد احتاجه لتصريح صحفي ومعرفة رأيه في قضية ما.
وبعد الشد والمد والجزر اضفت لهم بطلبي منه احيانا مساعدة انسانية في علاج قريب أوصديق ما معسر لا يستطيع دفع قيمة العلاج..
ولعل من أغرب القصص التي تجمعني بالقيادي د. عبدالحميد شكري الذي مازال يترأس المجلس الوطني الأعلى لتحرير واستقلال الجنوب الرافض لأي اندماجات هلامية على حساب القضية الجنوبية وتاريخ ونضال واسبقية مجلسه النضالي، ان أحد عسكر الأمن المركزي من البلاد يدعى عبده عبيد (الأصفر) كما كان يسميه الدكتور انقلب به وزملائه طقم عسكري وهم بالطريق بأبين، واسعف إلى أحد المشافي بعدن، في يوم جنوبي دام تزدحم فيه المستشفيات بجرحى الحراك وحينها لم يجد اهل هذا العسكري الأصفر، طبيبا مختصا لإجراء عملية جراحية انفاذية له غير الدكتور شكري المختص بعلاج ومجارحة جرحى الحراك وليس العسكر المتهمين بقتل أهلنا وشباب الحراك الجنوبي، ولكون أغلب الأطباء وقادة الوهم بحجم وطن الطافحين هذه الأيام بكثرة مقرفة على الساحة، كانوا يختفون في مثل هذه الظروف العصيبة ولا يجد الجرحى أمامهم الا صديقي الصبيحي المغامر بحياته وحريته ومصدر رزقه من أجل إنقاذهم.
ويومها تفاجأت باستاذي احمد عببد، اخ العسكري الأصفر هذا، يتواصل معي هاتفيا ويترجاني بأن استخدم علاقتي ومعرفتي بالدكتور شكري لاقناعه بان شقيقه مصاب بانقلاب طقم عسكري بابين وليس من العسكر الذين يقمعون المظاهرات الجنوبية اطلاقا، بدليل ان الدولة لم تقدم له أي خدمة اوحتى إسعافات أولية.
وأمام هذا الموقف الإنساني الصعب، كان لزاما ان أتدخل لدى الدكتور شكري واستخدم كل علاقاتي واحترامي لديه وتاريخ ذكرياتنا معا لاطلب منه التدخل الجراحي لإنقاذ هذا الأصفر كونه متزوج يابنت عمنا ولم اعرف انه سبق أن شارك فعلا في قمع اي مظاهرة جنوبية، بل على العكس كان ممن يتظاهرون معنا ويؤمنون بقضيتنا لولا الظروف المعيشية التي دفعته واغلب العسكريين الجنوبيين لدى قوات الأمن المركزي خصوصا.
وبالفعل قام الجراج شكري مشكورا بكل مايلزم مع هذا الأصغر كما اسماه إلى يومنا هذا، بسبب كثرة اصفرار الشعر بوجهه وخرج من المستشفي بخير بفضل الله وعلى يديه، ومازال يتنفس الحياة بكل خير وصحة والحمد لله على سلامته.
والحديث عن ذكرياتي مع الجراح عبدالحميد شكري لا يمكن أن ينتهي ومازلت أفكر وادرس واخطط لانتاج فيلم توثيقي عن حياته وكيف جمع بين النضال والطب والتعليم الجامعي بوقت واحد.