أنجيل الشاعر
كاتبة سورية
تتواتر الأحاديث والكتابات حول حقوق الإنسان، وتخصّص كلّها لحقوق الطفل والمرأة، في اليوم العالمي للطفل، وفي اليوم العالمي للمرأة، ما يوحي أحياناً بأنّ حقوق الطفل وحقوق المرأة تستقلّان عن حقوق الإنسان، وليستا حالتين خاصتين من حالاتها، ولسنا نعرف كيف تُصنَّف حقوق الشباب والشابات، وحقوق الكهول والعجائز، في ضوء الصيغ العامة للمواثيق والقرارات والإعلانات الدولية، التي تستند إليها الأقوال والكتابات، وقلّما تهتم الأحاديث والكتابات بالهوّة التي تفصل بين الأقوال والأفعال؛ إذ كلّما تزايدت الأقوال وعلت أصوات القائلين والقائلات، يكون الإنسان في حالة يرثى لها، خاصة في المجتمعات المأزومة، اجتماعياً وسياسياً ودينياً، وعلى وجه أخص، في ظلّ النزاعات والحروب التي شردّت الإنسان ونفته ووضعته تحت خط الفقر.
حقوق الإنسان ليست هبة أو منحة من قبل سلطة تشريعية أو تنفيذية أو أية سلطة أخرى، وهذا ما أشارت إليه الأمم المتحدة في إعلانها العام لحقوق الإنسان؛ فهي لم تقم إلا بإقرار هذه الحقوق وتنظيم ممارستها بعمومها وشموليتها؛ أي إنّ هذه الحقوق ليست قاصرة على فئة معينة من الأفراد، أو على مكان واحد من العالم، أو في زمان محدد من الأزمنة العابرة والقادمة؛ إنّما هي حقوق دائمة ملازمة للجنس البشري في كل زمان ومكان، تنمو وتتطور بنموه وتطوره؛ فهي حقوق طبيعية، تولد مع ولادة الإنسان، وتلازمه مدى الحياة، مثل حقّ الإنسان في الحياة وحفظ كرامته الإنسانية: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً”.
تقول الناشطة النسائية والأستاذة الجامعية سوزان مولر أكين: “إنّ الاعتراف بحقوق المرأة بوصفها من حقوق الإنسان، يعني النظر إلى مؤسسات الأسرة والدين والثقافة أو التقاليد في أضواء مستجدة…”؛ أي يجب على المجتمعات والحكومات إعادة النظر في ذواتها ومدركاتها، والانتقال من النظريات القائمة على حقوق الإنسان إلى التطبيق على أرض الواقع، فلم يعد الواقع المعيش مقتصراً على تعنيف النساء والتمييز ضدّ المرأة فحسب، (مع أنها في تزايد دائم)، إنما العنف والتمييز يقع على كافة أفراد المجتمعات الخاضعة للاستبداد، الإنسان السوري والإنسان العراقي واليمني والليبي وغيرهم، يرزحون تحت أشدّ أنواع العنف والتشرد والجوع، وقد سقطت عنهم الهوية الوطنية باللجوء والنزوح كما سقطت حقوقهم الإنسانية الطبيعية، بحرمانهم من الحياة التي تليق بالإنسان كإنسان، وسقطت الإرادة الذاتية والإرادة العامة في ظلّ النزاعات والتسلط المتوحش على إنسانيتهم.
الهوة الفاصلة بين الأقوال والأفعال، التي جعلت “حقوق الإنسان” شعاراً بين شعارات، نشأت أساساً من عدم إدماج حقوق المرأة في منظومة حقوق الإنسان، واعتبارها مجرد مسألة حقوقية مستقلة وهامشية، تتنازعها القوانين الوضعية والشرائع الدينية، وكثيراً ما تأتي معطوفة على حقوق الإنسان (حقوق الإنسان وحقوق المرأة)، بخلاف حقوق الرجال المضمونة، سواء في القوانين الوضعية أو في الشرائع الدينية، فلا تكثر التحفظات والاعتراضات إلا على حرية المرأة ومساواتها بالرجل، في الكرامة الإنسانية والأهلية الاجتماعية، وفي الحقوق المدنية والسياسية، حقوق المرأة خارج منظومة “حقوق الإنسان”، إذاً النساء خارج الجماعة الإنسانية؛ جنس آخر؛ وعالمهن عالم آخر.
يقول المفكر السوري الراحل، إلياس مرقص: “هناك شرط المرأة، الشرط النسوي، وتدهوره في وقت مبكر، أي انحدار العلاقة الأكثر طبيعية، والأكثر روحية، بين الإنسان والإنسان، والتي هي معيار الارتقاء المدني والإنساني”. إذاً، السبب الأساسي في تدهور الحياة الاجتماعية هو تدهور الشرط النسوي، والنظر إلى المرأة على أنها أقل في كلّ شيء، أقل كرامة، وأقل مكانة، وأقل أهلية، وأقل حرية، وأقل حقوقاً، على افتراض اعتراف المجتمع بكرامة ما للمرأة، سوى كونها أمّاً “وزوجة صالحة”، أو “شرف العشيرة”، بحسب المفكر المصري، مصطفى حجازي، أما المكانة والأهلية والحرية والمساواة فدونها خرط القتاد.
انحدار العلاقة بين الإنسان والإنسان، بين الذكر والأنثى، وبين الرجل والمرأة، هو أحد الأسباب المهمة في تردي الحياة الاجتماعية، وفي هشاشة المجتمع وتفككه، بدءاً من تردي حياة الأسرة وهشاشتها وتلككها، وهي أحد الأسباب المهمة لهدر كرامة الرجال وحقوقهم؛ لأنّ الاستبداد السياسي والديني لا ينفصل عن الاستبداد الذكوري؛ فالاستبداد يعامل رعاياه مثلما يعامل الرجال نساءهم، بحسب تعبير الباحث السوري، جاد الكريم الجباعي، في كتابه “فخ المساواة، تأنيث الرجل تذكير المرأة”. إنّ عدم إدماج حقوق النساء في منظومة حقوق الإنسان يبقي باب التمييز الجنسي والتعصب الجنسي مفتوحاً على مصراعيه، وهذان لا ينفصلان عن التمييز الإثني أو الديني أو غيرهما، فالتمييز الجنسي هو أساس جميع أشكال التمييز وأقدمها، وقد تم تكريسه منذ بدايات “الهيمنة الذكورية”.
الإنسان هو الإنسان، أينما كان وكيفما كان، انتقاص أيّ حقّ من حقوقه هو انتقاص من إنسانيته وكرامته، وأيّة مصادرة لحريته هي هدر لإنسانيته؛ فحرية المجتمعات وتطورها وتقدمها، مرهون وبشكل حتميّ بحرية المرأة وتطورها وتقدمها، وانخراطها في جميع مجالات الحياة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ولا تتحقق حرية المرأة إلا إذا اتسعت مساحة الحريات العامة، وتعززت إمكانات التحوّل الديمقراطي، وقيم العدالة والمساواة، بذلك تتسع المساحة لكلّ فرد من أفراد المجتمع (الأنثى والذكر) للتعبير عن نفسه، وترويج أفكاره والدفاع عنها، وقبول الفكر الآخر والإنسان الآخر، بغضّ النظر عن هويته، أو هويتها، الجنسية، وعن محمولاته/ محمولاتها السياسية والدينية والقومية، لا يتحقق ذلك إلّا بدمج حقوق المرأة في منظومة حقوق الإنسان ومعاملة المرأة على أرض الواقع كإنسان، لها ما للرجل من حقوق، وعليها ما عليه من مسؤوليات وواجبات.
إنّ تدهور الشرط النسوي؛ يعني تدهور كافة الشروط المدنية والإنسانية، وتدهور أجيالٍ تقوم على تربيتها امرأة مضطهدة ومحرومة، ناقصة الأهلية، لا تملك زمام نفسها، لتعطي ما لديها من إمكانات في تنشئة الأجيال.
نقلاً عن حفريات