كريتر نت – متابعات
اتخذت المملكة العربية السعودية في الخامس من سبتمبر الجاري قرارا بمواصلة خفض إنتاجها بمقدار مليون برميل يوميا حتى نهاية هذا العام، وقررت روسيا تمديد خفض الصادرات بمقدار 300 ألف برميل يوميا لنفس الفترة.
واجتمع التطوران لدفع أسعار النفط إلى أعلى مستوياتها منذ نوفمبر الماضي. ورفع هذا الضغوط التضخمية التي تهدد اقتصاد الولايات المتحدة والعديد من الدول المتحالفة معها.
ويقول سايمون واتكينز في تحليل على موقع أويل برايس إن السؤال الذي يحوم بالنسبة إلى المستوردين الصافين للنفط (ومستوردي الغاز أيضا، حيث تتشكل 70 في المئة من أسعار الغاز تاريخيا حسب سعر النفط) حول المستوى الذي سيوقف عنده زعيما أوبك+ جهودهما لمواصلة زيادة الأسعار.
ويتساءل واتكينز إن كان الجزء الأول من هذه المعادلة يكمن في مدى ضرورة ارتفاع الأسعار للإبقاء على هذين الاقتصادين قائمين، أو ما إذا كان التحرك مجرد جشع، أو لعبة قوة جيوسياسية، أو أي مزيج منهما.
السؤال بالنسبة إلى مستوردي النفط هو أي مستوى سيوقف عنده زعيما أوبك+ جهودهما لمواصلة زيادة الأسعار
ويقول إنه من المعروف أن الاقتصاد السعودي هو قوة تغذيها عائدات النفط الهائلة. ويحمل الجزء الأخير بعض الحقيقة، بمساعدة الكلفة الأقل لرفع برميل النفط في العالم (إلى جانب إيران والعراق)، حيث لا تتجاوز دولارين. لكن جزءا كبيرا من هذه الإيرادات يُخصم من المصدر بسبب التزامات سداد أرباح الأسهم الضخمة التي يجب أن تلتزم بها شركة أرامكو كل ثلاثة أشهر.
وحتى مع وصول متوسط سعر خام برنت إلى حوالي 80 دولارا للبرميل في الربع الثاني، تُخصص 65 في المئة من صافي دخل المؤسسة لسداد الديون للمساهمين.
وإذا بقي صافي دخلها على حاله في الربع الثالث، سيرتفع سداد الديون إلى 98 في المئة. ويعدّ ما تبقى حجر الأساس لكل إنفاق سعودي يشمل الوظائف الأساسية للدولة مثل الصحة والتعليم والدفاع، والمشاريع الاجتماعية والاقتصادية الضخمة.
ويبلغ سعر التعادل المالي النفطي نظريا في السعودية 78 دولارا أميركيا لخام برنت. ولكن ليس له حدود من الناحية العملية، حيث أن سعر التعادل المالي النفطي هو الحد الأدنى لسعر البرميل الذي تحتاج إليه أي دولة مصدرة للنفط لتلبية احتياجات الإنفاق المتوقعة مع موازنة ميزانيتها الرسمية.
وينطبق نفس الأمر على روسيا. فلعقدين، كان سعر التعادل النفطي يبلغ حوالي 40 دولارا للبرميل.
وقفز رسميا بعد غزو أوكرانيا في 24 فبراير 2022 إلى 115 دولارا للبرميل.
وعلى نحو غير رسمي، وبما أن الحروب لا تلتزم بميزانيات يمكن قياسها بسهولة والالتزام بها بصرامة، يصبح سعر التعادل المالي هو ما يرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن عليه أن يكون في أي لحظة.
ولذلك، يتحدد الجزء الأول من المعادلة بأن السعودية وروسيا تبقيان بحاجة مطلقة إلى الاستمرار في دفع أسعار النفط إلى الارتفاع، وهو ما ينقلنا إلى جزئها الثاني وهو: على أي مستوى ستواجهان ضغوطا هائلة من عملائهما للتوقف عن الدفع؟ وتشمل مجموعة العملاء الأولى الولايات المتحدة وحلفاءها الأساسيين.
وسببت أسعار النفط والغاز المتزايدة ارتفاعات هائلة في التضخم وأسعار الفائدة المطلوبة لمكافحته، وهو ما يؤدي بدوره إلى زيادة احتمالات أن تعاني هذه الأطراف من الركود الاقتصادي.
وتبقى لهذه المخاوف بالنسبة للولايات المتحدة تداعيات أولاها اقتصادية والثانية سياسية.
ويكمن السبب الاقتصادي في أن كل تغيير قدره 10 دولارات للبرميل في سعر النفط الخام يؤدي تاريخيا إلى تغير يتراوح بين 25 إلى 30 سنتا في سعر غالون البنزين.
ومقابل كل سنت واحد يرتفع متوسط سعر غالون البنزين فيه، تُسجّل خسارة أكثر من مليار دولار سنويا من الإنفاق الاستهلاكي، ويعاني الاقتصاد الأميركي بسبب ذلك.
والعامل السياسي هو أن الرؤساء الأميركيين يفوزون بولاية ثانية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى إلى سنة 2018 (11 مرة من أصل 11) إذا لم يشهد الاقتصاد حالة من الركود خلال العامين الفاصلين عن الانتخابات، وفقا لإحصائيات المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية في الولايات المتحدة.
لكن لم يفز سوى رئيس واحد من أصل سبعة خاضوا حملة للفوز بولاية ثانية خلال ركود الاقتصاد. وليس هذا الموقف الذي يريده الرئيس الأميركي جو بايدن أو الحزب الديمقراطي قبل عام من الانتخابات المقبلة.
ويتزايد تراجع علاقة روسيا بهذه الدول مقارنة بالسعودية بسبب التصعيد المستمر للعقوبات ضد صادراتها من الطاقة. وانتقلت المملكة العربية السعودية إلى مجال نفوذ الصين، حيث لا يبدو أنها تهتم بما تريده الولايات المتحدة.
كل تغيير قدره 10 دولارات للبرميل في سعر النفط الخام يؤدي تاريخيا إلى تغير يتراوح بين 25 إلى 30 سنتا في سعر غالون البنزين
ولعل هذا ما أكده ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان شخصيا عندما رفض حتى تلقي مكالمة هاتفية من الرئيس الأميركي بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، حين أراد أن يطلب من المملكة المساعدة للضغط على أسعار الطاقة التي تشل الاقتصاد.
لكن هذا لا يعني أن الولايات المتحدة عاجزة عن إقناع السعودية بتغيير رأيها. وتبقى آلية قطع جزء كبير من عائداتها النفطية من خلال التدمير الفعال لشركة أرامكو موجودة في الولايات المتحدة في شكل مشروع قانون “منع كارتلات إنتاج وتصدير النفط” (نوبك).
ويمكن لهذا التشريع أن يفتح الطريق أمام مقاضاة الحكومات ذات السيادة بسبب التسعير الجائر وأي فشل في الامتثال لقوانين مكافحة الاحتكار في الولايات المتحدة.
وتعدّ أوبك اتحادا احتكاريا بحكم الأمر الواقع، والسعودية زعيمته الفعلية، وأرامكو هي شركة النفط الرئيسية في المملكة.
ويعني سن قانون نوبك أن التداول في جميع منتجات أرامكو السعودية (بما في ذلك النفط) سيخضع لتشريعات مكافحة الاحتكار، مما يعني حظر المبيعات بالدولار.
وسيعني ذلك أيضا تفكك أرامكو في نهاية المطاف إلى شركات أصغر حجما غير قادرة على التأثير على أسعار النفط.
وهذا ما يترك السوق أمام العملاء الآسيويين الكبار، وخاصة الصين والهند.
ويمكن للصين شراء النفط من عدة مصادر رئيسية بما في ذلك إيران والعراق وروسيا، وحتى المملكة العربية السعودية نفسها، من بين مصادر أخرى كثيرة.
لكن استعداد الصين لتشجيع أسعار النفط والغاز المتصاعدة ضمنيا يفوقه التأثير غير المباشر على اقتصادها بمرور الوقت.
ولا تزال الصين تعتمد بشكل كبير على الصادرات إلى الولايات المتحدة وحلفائها، وسينزلق اقتصادها مع تزايد تأثير ارتفاع أسعار النفط والغاز على هذه الاقتصادات.
وكما حدث منذ نهاية 2022، لم يكن الانتعاش الاقتصادي للبلاد بعد ثلاث سنوات من إدارة كوفيد المشددة للغاية مضمونا، ويمكن أن ينظر إليه على أنه عند نقطة تحول خطيرة بالنسبة إلى حكومة الرئيس الصيني شي جينبينغ.
ولن يغير قرارها في 15 أغسطس بالتوقف عن نشر بيانات البطالة بين الشباب بعد أن وصلت إلى مستوى قياسي بلغ 21.3 في المئة في يونيو من السخط المتزايد في هذه الفئة المجتمعية.
وتدرك الحكومة أنه قبل سلسلة الانتفاضات العنيفة خلال 2010 التي ميزت بداية ثورات الربيع العربي، بلغ متوسط البطالة بين الشباب في تلك البلدان 23.4 في المئة.
ولذلك، إما ألا تؤثر الصين على السعودية وروسيا نحو اعتدال ارتفاع أسعار النفط والغاز، مما سيقلل الطلب الرئيسي على صادراتها ويثقل كاهل اقتصادها بشكل أكبر ويقلل الطلب على النفط والغاز مما سيدفع نحو خفض الأسعار، أو أن تقرر ذلك وتنخفض الأسعار أيضا.
ونظرا لهذه العوامل، يبدو سعر التوازن الثابت لخام برنت على المدى القصير متراوحا بين 80 و85 دولارا للبرميل، مع سقف يبلغ حوالي 95 دولارا للبرميل.
ومن المفترض أن تؤدي هذه العوامل على المدى الطويل إلى العودة إلى “نطاق ترامب” القديم لتسعير النفط المتألف من سعر خام برنت يتراوح بين 40 و45 دولارا للبرميل على الأقل (السعر الذي يمكّن منتجي النفط الصخري في الولايات المتحدة من العمل وتحقيق أرباح جيدة) إلى سقف 75 إلى 80 دولارا للبرميل (السعر الذي يصبح بعده التهديد الاقتصادي واضحا للولايات المتحدة وحلفائها، والتهديد السياسي في أفق الرئيس الراغب في الفوز بولاية ثانية).
وفُرض هذا النطاق بصرامة في ظل إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب إلى درجة أنه لم يُنتهك خلال فترة رئاسته بأكملها سوى مرة واحدة فقط لمدة قاربت ثلاثة أسابيع (نهاية سبتمبر 2018 إلى منتصف أكتوبر من نفس السنة).