جاد الكريم الجباعي
كاتب سوري
الإصلاح الديني عملية تاريخية، تنهض بها مؤسسات دينية ورجال دين أو لاهوتيون، أو تنبثق من قلب المؤسسات الدينية، وينهض بها مصلحون، من أمثال الراهب الألماني، مارتن لوثر (1483 – 1546)، في المسيحية، والشيخان، جمال الدين الأفغاني (1838 – 1897)، ومحمد عبده (1849 – 1905) في الإسلام …؛ فليس للعلمانيين، في هذا المجال، أي تأثير ذي شأن، إلا بقدر ما يتصدون بجسارة وصدق لفلسفة الدين، ونقد اللاهوت (الإكليروس)، على نحو ما فعل الفيلسوف الألماني، لودفيغ فويرباخ (1804 – 1872) وغيره من الفلاسفة، أو التفكير في الدين ومذاهبه تفكيراً حراً، ونقد السلطات الدينية وتعرية فسادها وتواطئها مع التسلط والاستبداد.
لذلك، نعتقد أن تنطُّع العلمانيين، في بلادنا، للإصلاح الديني ينطلق من ثلاثة أوهام، على الأقل، الوهم الأول؛ هو إمكان إصلاح ديني بمعزل عن تقدم علمي، ينير العقول، ويطرح الأسئلة، ويحرج اللاهوت، ويدفعه دفعاً إلى التكيف مع التغيرات البنيانية في المعرفة والثقافة، وهذا مما يفضي إلى نوع من الإصلاح التدريجي الهادئ، الذي يتناسب طرداً مع تقدم العلوم واندماجها في العمل، ما لم يكن الدين أداة سياسية، وغطاء لمصالح خاصة عمياء.
والوهم الثاني هو إمكان قيام إصلاح ديني من دون تحولات جذرية في البنى الاجتماعية – الاقتصادية والثقافية والسياسية، في سياق عملية الانتقال التاريخية من الحالة الطبيعية وشبه الطبيعية إلى الحالة المدنية، تحولات تضمن حرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطن.
أما الوهم الثالث فهو إمكان إصلاح ديني في ظل الاستبداد. فإنّ استقلال الدين عن الدولة أو العكس كان نتيجة الحداثة السياسية والتحولات الديمقراطية، ونشوء الدولة الوطنية؛ أي نتيجة الإلغاء السياسي للملكية الخاصة والدين، بتعبير كارل ماركس، لا نتيجة مباشرة للإصلاح الديني.
وإلى ذلك يتجاهل العلمانيون المعنيون حقيقة أنّ جميع حركات الإصلاح الديني الجذرية في التاريخ تحولت إما إلى مذاهب دينية (أرثوذكسيات) جديدة، وإما إلى فرق هامشية معزولة.
“المفكرون العلمانيون لا يمثلون أصالة الدين الإسلامي، على وجه الدقة، ولا ينطقون باسمه، وإن كانوا مسلمين؛ ذلك لأنهم لم ينطلقوا، (ولا ينطلقون)، على ما يبدو، من الإسلام نفسه لمجابهة التطور الحديث وتقييمه في ضوء مبادئ الإسلام ومقتضياته، على نحو ما يفعل مفكرون إسلاميون، بل انطلقوا، (وينطلقون)، بالأحرى، من واقع التطور الحديث لتفسير الإسلام وتطويره وفقاً لمقتضيات هذا الواقع. فجاءت محاولاتهم كأنّها غير صادرة عن صميم التقليد الإسلامي، وبدت لذلك غير مؤهلة للفعل فيه من الداخل، كمن له سلطان” .
يضاف إلى ذلك أنّ لغة الثقافة العربية الحديثة، لغة الكتاب والمفكرين، تبدو لغة خارجية عن الكتلة الشعبية الواسعة في أي بلد عربي، لا بسبب مضامينها الحديثة فقط، بل بسبب كونها لغة فصيحة، ليست لغة التداول اليومي والتواصل الاجتماعي والإنساني، وليست لغة التبادل المادي والثقافي.
يمكن القول هنا إنّ مجتمع اللغة الفصحى هو مجتمع القراء والقارئات والكتاب والكاتبات، وهو ليس بنية علائقية، كالمجتمع الأهلي، وليس فضاء عاماً ومشتركاً من الحرية، كالمجتمع المدني، فلا يتوفر على خصائص المجتمعات الصغيرة، ولا على خصائص المجتمعات الكبيرة.
فلا يبعد أن تكون انشغال العلمانيين بـ “الإصلاح الديني”، في هذه الحال، هروباً من الهامشية.
قد يقول قائل: أليست لغة خطباء المساجد والفقهاء والدعاة والمبشرين من اللاهوتيين لغةً فصحى وجزءاً عضوياً من نسيج الثقافة الشعبية، بخلاف لغة الكتاب والأدباء والمفكرين؟ بلى هي كذلك بالفعل؛ لخمسة أسباب لا تتوفر للغة الكتاب والأدباء والمفكرين “العلمانيين”:
أول هذه الأسباب أنّ لغة اللاهوتيين مطابقة لنموذج التفكير الشعبي، الذي أنتجه اللاهوتيون أنفسهم، وظلوا يعيدون إنتاجه، على مدى قرون، نعني نموذج التفكير الديني (الغيبي، الأسطوري، والسحري). فالدين، في نظر بعض الفلاسفة، هو الفلسفة وقد صارت شعبيةً.
والثاني أنّ لغة اللاهوتيين مُشْرَبة بعنصر القداسة، الذي يقتضي القبول التام والتصديق التام، تحت طائلة التكفير، هي لغة مصنوعة لكي تُسمع وتُطاع، أو لكي تُقرأ في خلوة.
ثالثاً لأنها تقول للمستمعين، لا للقراء، ما يريدون سماعه مرة تلو مرة.
وهنا يدخل عامل التكرار والاجترار سبباً رابعاً. خامساً لأنها لغة السلطة، التي تقتضي الطاعة والامتثال، والتي استحدثت “العلوم الدينية”، وتفسير القرآن بالسنة وبالعكس، وتفسير السنة والقرآن بالشعر، وجعلت التاريخ يشهد قسراً للخطابات والنصوص، فاندمج التاريخ في اللغة، واندمجت اللغة في التاريخ، واندمجا معاً في المقدس والأصيل.
فليس غريباً، وهذه الحال، أن تكون اللغة والعقيدة والتاريخ هي “الثوابت”، التي يلتقي عليها القومويون والإسلامويون.
ويضيف إليها بعض القومويين الاعتقاد بـ “رابطة الدم” أو الشعور بالقرابة العرقية، على رأي ساطع الحصري، الذي يقول: “المهم في القرابة والنسب ليس رابطة الدم في حد ذاتها، بل هو الاعتقاد بها والنشوء عليها، وهذا هو الواقع بالنسبة إلى الأفراد والجماعات على حد سواء: إنّ الاعتقاد بوحدة الأصل والشعور بالقرابة يعمل عملاً هاماً في تكوين الأمم، سواء كان ذلك موافقاً للحقيقة أم مخالفاً لها؛ لأن القرابة بين أفراد الأمم تكون قرابة نفسانية معنوية أكثر مما تكون جسمانية ومادية”2.
فلا يزال النزوع إلى تفسير القومية العربية تفسيراً ثقافياً، لا سياسياً، هو النزوع السائد لدى القائلين بالنظرية القومية العربية.
“القومية العربية قومية ثقافية، تستند إلى المقومات الثقافية للأمة العربية، التي تشكلت حول اللغة والتعريب والتراث الثقافي والدور التاريخي للعرب”3.
إذن، لا يكفي الحديث عن “ازدواجية لغوية”، لا يخلو منها أي مجتمع، بل يجب الحديث عن انشقاق اجتماعي وتباين ثقافي، وعن ثنوية “الأصيل” و”الدخيل”، التي تحكم عملية الإدراك والتفكير والتمثُّل والتقدير.
“العلمانيون”، الذين يتنطعون للإصلاح الديني، هم هؤلاء القومويون الغارقون في “تراث الأمة” وتاريخها “المجيد”، والمسحورون بهما، وبـ “الثقافة الشعبية”، هم الشعبويون المجاهدون في سبيل بعث الأمة وإحيائها.
هؤلاء، كما نظن، هم إسلامويون متنكرون، لا يتوفرون على نزاهة المفكرين الإسلاميين الأحرار وشجاعتهم، ولا على نزاهة المفكرين العلمانيين الأحرار وشجاعتهم، ولعلهم يحتلون الهوة الفاصلة بين المفكر والفقيه.
سنغامر بالقول: إنّ علوم اللغة وعلوم الدين، وعلم التاريخ، التي استحدثتها السلطة الدينية – السياسية ظلت خارجية عن المجتمع / المجتمعات، كخارجية السلطة ذاتها، وهذا مما جعل من الإسلام هوية، مجرد هوية، هي الصلة الوحيدة بين الحكام والمحكومين، الصلة التي تقلقها الانتماءات والولاءات الأقوامية (الإثنية) المختلفة، مثلما تقلقها المصالح المختلفة والمتعارضة.
لذلك كانت السلطة على امتداد التاريخ “العربي الإسلامي”، ولا تزال، تسيطر ولا توحد، ولذلك كان العنف، ولا يزال، عنصراً بنائياً من عناصر السلطة، وكان ولا يزال من العسير أن تتحول هذه من سلطة شخصية أو عشائرية أو عائلية إلى سلطة عامة، هي سلطة القانون، وكان ولا يزال من العسير تشكُّل مجتمع مدني ودولة سياسية حديثة.
هوامش:
1- ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، 1798 – 1939، ترجمة كريم عزقول، دار النهار للنشر، بيروت، نسخة مصورة بلا تاريخ نشر ، ص 6.
2- محمد كامل الخطيب، محرر، القومية والوحدة، المقالات، وزارة الثقافة، 1994 ص 60
3- جورج طرابيشي،الدولة القطرية والنظرية القومية، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 1982، ص 62 – 64
نقلاً عن حفريات