محمد حسن
إن العالم بحيث هو حيز للعيش يضم بداخله تمظهرات فكرية وبنيات ثقافية عدة، وذلك التعدد سواء كان على المستوى الضيق أي بين الأفراد وبعضهم، أم على المستوى العمومي أي بين الثقافات إجمالاً وبعضهم بعضاً، يستدعي التصادم والتفاعل بين الثقافات والأفراد، فرؤية الفرد للفرد الآخر مستمدة من نظام الثقافة الدلالي الخاص والذي على أساسه تنظر الثقافة للأخرى.
والعيش في العالم يستوجب وجود سِلمية في التفاعل مع الآخر، حيث يجب إيجاد سبيل للتوفيق لإيجاد أرضية مشتركة للصراع والتفاعل وحتى الذوبان في بعض الأحيان، لذا وجب تحليل تلك الرؤية من داخلها ومن المستوى الضيق حتى المستوى العمومي للوقوف على آليات الوصول لتلك الأرضية.
تنظر كل ثقافة إلى الأخرى تبعاً لآليات الثقافة الأساسية في تحويل الأشياء الطبيعية إلى ظواهر سيميوطيقية.
ولكل ثقافة نظامها السيميوطيقي الخاص، تُحدِّد نفسها من خلاله كما تحكم على الآخر: فكل منْ يوجد داخل حيز هذا النظام فهو منها، ويُوصف بالتحضر، وكل ما هو خارج عنه فهو بربري، فالحضارة والبربرية صفة نسبية داخل إطار كل حضارة. فكل حضارة تنظر إلى الآخر من داخل الحدود التي ترتسمها لنفسها، فالنظرة إلى الآخر تكون معكوسة، فكل حضارة تنظر بدورها إلى الأخرى على أنها «البرابرة». فالبربرية تصِم دائماً منْ يوجد خارج الزمام المكاني للحضارة. [1]
إتيقا الحوار مع الآخر
ينتج عن التقابل الفكري بين صفتي التحضر/ البربرية حوار يتصف بتعاليه؛ حيث ينظر الأنا للغير من أعلى أبراج الحضارة، لأن الانعكاس الثقافي الناجم عن اللاوعي الخاص بالنظام الثقافي السيميوطيقي في حكمه على الآخر يستدعي اتساع الفجوة بين وجود تقابل فكري على أرضية مشتركة، فيتسم الفكر الذاتي للأنا بالتعالي في مقابل الانحطاط الفكري للآخر، فكل آخر هو انعكاس دلالي لتمظهر التعالي الموجود في الأنا، مما يستدعي تدني كل فكر/ أيديولوجيا /ثقافة غيرية تنتمي لآخر معاكس.
تلك النظرة لجعبة الهوية الغيرية بوصفها «استدعاءً ثقافياً كليانياً للآخر المضاد» لا تستدعي دوماً حكماً موضوعياً لتلك الهوية، فهي انعكاس للنظرة الغيرية، فالنظرة إلى الآخر تستدعي النظر لكل ما يحويه الآخر أو يشمله أو يقع داخل حيزه، حتى وإن كانت المعرفة المستمدة عنه تنبع عن معرفة كلية أو حتى عن معرفة سطحية، فالنظرة لكل ما بداخل هذا الحيز تتسم دوماً بالتدني طبقاً لترافقها مع النظرة للآخر، وبذلك فإن إتيقا الحوار مع الآخر بوصفه مُغايراً للذات ومعاكساً لها يتسم بالتحاور من منطلق تقويم الآخر وضمه لحيز «النحن» الثقافية والتي تستوجب التوافق في البنية المعرفية أو المنبع المعرفي المستمد من النبع الأيديولوجي/ الديني/ الثقافي الأوحد.
إن التغاير والاختلاف ما بين حضارة الأنا/ الذات وبربرية الآخر/الغير لا تستوجب ديمومة التصارع والجدل بل ولا تستدعي ديمومة المواجهة بين كلتيهما، بل تتخللها تأثرات وتوافقات تنبع من التلاقي الناتج من تخلي الأنا عن قدسية ذاتها وتحاورها الثقافي مع الآخر، فالتخلي عن التعالي الثقافي والتحاور الحيادي البناء مع الثقافات الغيرية هو السبيل الأمثل لإيجاد أرض الإتيقا الحوارية اللازمة لتفاعل الأنا مع الآخر لإيجاد مجتمع/ وطن/ حيز ثقافي أو فضاء يشمل توافقات وتعايشات «النحن» بوصفها التقبل الفكري والتفاعل البناء مع مختلف الأشكال الثقافية للآخر.
النحن/ الوطن
إن التمازج بين الأنا والآخر ينتج النحن التي بوصفها إمكاناً تاريخياً للمجتمع الراهن، فالمجتمع بتمظهره وتجليه في الراهن [2] هو عبارة عن حيز الإمكان في الزمان لوجود الأفراد واندماجهم وتعايشهم وتفاعلهم مع العالم والوجود.
ربما يكون التوصل إلى النحن عن طريق استيعاب الأنا للآخر وتمثله حيث إن التواصل معه ومعارضته والاتحاد به في آن واحد يوجِد الصحبة على الطريق المؤدي لقلب التواصل، فالتواصل يعمل على توسيع أفق الوجود الإنساني عن طريق الاستيعاب المتبادل حيث يتفتح لطرفي التواصل الطريق إلى أعماق الوضع الإنساني المؤدي لوجود الوطن، حيث يكون الوطن هو أحد تجليات النحن بوضعها الإنساني الراهن اعتماداً على الإمكان التاريخي الزماني.[3]
إن الوطن هو نمط الإشارة الراهن إلى منطقة النحن التي لنا في كل مرة. لكن الراهن ليس الإمكان الوحيد للوطن. لنقل إن الوطن ضرب جذري من احتمال الراهن بوصفه نمط الوجود الذي هو نحن. إن ذلك يعني للتو أن النحن ليست ملة ولا ينبغي لها، بل هي إمكان راهن ليس الوطن غير أحد معانيه الأولية وربما المؤقتة. إن الوطن هو نمط العناية بالراهن الذي هو نحن. نحن إذًا لا نوجد في الراهن، بل نحن بنية الراهن أو نحن الراهن فحسب. وهكذا بدأ ينكشف للتو أن النحن إنما هي إذًا في أصلها إمكان زماني وليست ضميراً لأحد. [4]
تجليات الآخر/ الغيرية الدينية
تكون ثنائية الأنا/ الآخر في أكثر تجلياتها في الرؤية الدينية للعالم القائمة على استئثار الأنا للمقدس/ المتعالي، فالأنا هي (شعب الله المختار، خراف الرب، خير الأمم أمتي) بحيث تتماهى المكانة الطبقية للمقدس لتنعكس على الأنا فتنتج استئثاراً علوياً للأمة، بينما يُنظَر للآخر على أنه الضال عن الدرب القويم، الفاقد للسبيل المؤدي للثواب الآخروي، حيث ستندمج الأنا بالمقدس وسيرفعها مكاناً علياً بينما سيصير الآخر في أسفل سافلين.
إن نتاج تجليات التأثرات الدينية/ الثقافية وتماهيها في النظرة إلى الآخر بوصفه خارج الملة/ الأمة تبتعد عن الطريق المؤدي لاستيعاب الآخر، حيث يؤدي لوجود طبقات عليا «الأنا وكل ما حولها» وطبقات دنيا «الآخر وكل يرافقه» مما يؤدي لاتساع الفجوة بينهما في الطريق المؤدي لتكوين «النحن» بوصفها وطناً يشمل الشيء ونقيضه والمُركَب الجامع بينهما، وهذا بالضرورة مؤداه طريق متعالٍ أصولي محافظ على فكر الأنا.
الأصولية واستئثار حاكمية الدولة
إن تعالي مفهوم الأنا يشمل تعالي كل ما يتصل بها من ثقافة وفكر والذي مؤداه انبثاق جانب سلطوي يريد إخضاع الآخر تحت سلطة ثقافة الأنا، وهو ليس صداماً ثقافياً بل قمعاً للآخر تحت سلطة نص الأنا ومتنه المتعالي، حيث إن استنباطه للقوانين يتم عن طريقة قراءته الحدية لمتنه ونصه الديني. [6] إن تعالي الأنا ينتج فكراً أصولياً يحاول التماهي بالمفهوم الثقافي للمتن للمفهوم المتعالي الإلهي، فكل فكر أصولي يستوجب بالضرورة اتصالاً بين الأرضي والمفارق/ المتعالي فتتوالد بذلك الأفكار الأصولية الدنيوية تحت ساتر الألوهية ومحملة بهالات قدسية تُعلي من إمكاناتها.
تلك الهيمنة الكلية تنتزع القوانين المنظِمة لأحوال النحن بإمكانها الراهن –التي تستدعي التغيير بتغيير الحال أو الإمكان الزماني– وتسمو بها إلى قاعدة القدسية؛ فمن صحيح ونافع إلى حلال وحق ومن ضار وخطأ إلى حرام وهرطقة [7] فتنتزع بذلك الإمكان الإنساني في تلك القوانين التي تنظم أحوال الوطن/ الدولة بوضعها الزماني الراهن.
فالانتقال من الحد الإنساني إلى الحد القدسي يستوجب بالضرورة خضوعاً تاماً للقوانين والشرائع، فالخروج على القانون هو خروج على حدود المقدس، مما يستدعي العقاب الإلهي بيد السلطة البشرية الأصولية الممثلة لمقصلة الإلهي في العالم، مما ينتقل بنا من مجرد إمكان أصولي في الفكر إلى وجوب إرهابي في الواقع، الذي ينتقل بالدولة من الاحتكام للوضع الإنساني الراهن للنحن في تنسيق وتشريع القوانين إلى الحاكمية الأصولية التي تدَّعي امتلاكها للحقيقة الإلهية.
إن الصراع القائم بين الفكر الأصولي والفكر الإنساني الموجود في الراهن ليس صراعاً من أجل الحقيقة، بل من أجل استئثار الحقيقة، مما يستدعي جدالاً منحرفاً يصر على الانتصار، حيث يكون معه الحق، بل ويستبعد الطرف الآخر ويجعله في طي النسيان، مما يستدعي الفكر الأصولي لاستدعاء الإرهاب وسيلة لتحقيق الحاكمية على الفكر والفعل. [8]
حيث إن الفكر الأصولي لا يسعى لاحتضان الآخر ضمن حيز الانسجام الاجتماعي المؤدي لتأبين «نحن» أنطولوجية، بل يسعى لطمس الاختلاف الناجم عن فكر الآخر بوصفه ذاتاً خاصة وطمس فكرة والاستحواذ عليه أنطولوجيا، وبلورة مفهوم الوحدة الاجتماعية بوصفها نطاقاً خاصاً لفكر أيديولوجي واحد متطابق، وليست وحدة مكونة من مجموع التعددات الفكرية يستلزم انسجامها وتحريرها من الانغلاق الحدي الأيديولوجي.
الوطن والدين والتشريع
ليس الوطن، من حيث الواقع، سوى نمط من «الميثاق» الاجتماعي، إنه ليس مُعطى سحرياً أو طبيعياً بل هو سياق إتيقي أساساً.
ولذلك، كما يقول روسو، فإن «الحق الذي يعطيه الميثاق الاجتماعي للحاكم على محكوميه لا يتجاوز حدود المصلحة العامة». أما من حيث التفكير في معنى «الدين» بما هو ضرب من «الوطن» الروحي وليس المدني، فإن كانط قد أشار إلى أن الحل الفلسفي، أي الإتيقي، هو أنه لا يمكن الإقرار بالدين إلا «في حدود مجرد العقل». وذلك يعني عنده: ضمن استعمال أخلاقي للعقل.
إن الأساس الوحيد لمعنى الدين هو مفهوم الإنسان بما هو موجود عاقل وحر بشكل جذري، ولذلك فالدين لا يصبح معنى كلياً إلا إذا ما تُرجم في معنى أخلاقي. أمّا ماعدا ذلك فهو مشكل غير كوني، بل خاص بأفق ملة مغلقة على متنها الخاص، ومن ثَمَّ غير قادرة على التشريع الروحي للإنسانية جمعاء. [9]
إن بوتقة الوطن ينصهر بداخلها أيديولوجيات/ أفكار/ أديان مختلف طوائف المواطنين، لذلك فانصباب التشريع على اتجاه أحادي يوجِد عدم التوافق والتناسق في تلقي الأحكام الناجمة عن تلك التشريعات، ولكن يجب التشريع «المدني» طبقاً من توافقات لأطياف الكائنين بداخل الحيز الكلي للمفهوم.
إن التشريع المذكور بعاليه مؤداه اتساع أفق القوانين والأحكام ليشمل بداخله كل أطياف الحاكمين/ المحكومين بداخل نطاق الوطن كـ«مفهوم اجتماعي» وليس كحدود جغرافية فقط، بينما استدعاء تلك التشريعات من نسق أيديولوجي واحد يستدعي معه استئثار جماعة/ ملة عن أخرى، وتفضيل اتجاه فكري حدي، وبذلك يتحول السياق الاجتماعي من سياق متفتح يستوعب بداخله تعدد الاتجاهات الفكرية إلى سياق ضيق/ مغلق على ذاته، تدور أحكامه ومصالحه في حدود مصلحة جماعة معينة/ مُحددة سلفاً طبقاً للاستدعاء التشريعي النصي من المتن الخاص لتلك الجماعة.
يجب وضع تشريع يحتوي بداخله تساوي وقع الأحكام على كافة الأطياف.
مما يستدعي غربلة التشريع المللي القائم والمستمد من متن خصوصي بجماعة أو ملة واحدة، لا سيما حين يكون المجتمع كياناً يحمل بين جوانبه عديداً من التيارات الفكرية والأيديولوجية المختلفة، التي في حاجة إلى قانون يكفل حرية كل فرد بوصفه كينونة مستقلة عن الجماعة، لا بوصفه فرداً بداخل منظومة متماثلة الأفراد يذوب فيها مفهوم الفرد وتقضي عليه مفاهيم ومبادئ الجماعة، والتي تؤسس لانزياح وجودية الأفراد الخاصة وذوبانها في الهيكل الخاص بالجماعة؛ أي تسير في طريق طمس الهوية الفردية وتكوين هوية الجماعة.
الفرد الإنساني كيان مستقل مُحمّل بأفكار ويمارس ديناً ويؤسس لنفسه مبادئ لمساعدته على العيش في العالم، فهو يمارس وجوده بممارسة نشاطاته داخل الحيز التاريخي الزماني الموجود به، وبداخل الإطار الموجود فيه، فتفاعله الشخصي مع العالم هو وسيلة استقلاله الوجودي، ولكن وجب العلم أن ممارساته الوجودية يلزم أن تكون في الحيز الخاص به، فممارساته الفكرية أو الدينية أو الثقافية… إلخ، تتوقف في حالة التعدي على الحيز الخاص بالآخر.
إن كل فرد بداخل الإطار الجامع للأفراد/ المجتمع أو الإطار الكلي الجامع للبشر/ العالم يمتلك من الاستقلال ما يجعله يتفاعل مع العالم ويمتلك من الأفكار والمعتقدات ويمارس إيمانه الديني أو الفكري بمعزل عن الإضرار بالآخر، فحدود ممارساته هي حدود التعدي على الآخر، لذلك فالتشريع وجب أن يخرج عن المتن المغلق على نفسه في صالح جماعة ما، إلى الحيز الشامل الإنساني الذي يكفل لكل فرد ممارسة وجوديته بوصفه إنساناً مُستقلاً في مقابل الوجود. حتى تتفسّح أمام كل فرد دروب ممارساته لوجوده الخاص بوصفه كائناً يحتاج لوجوده ومحتاجاً إلى ما يثريه.
نقلا عن “إضاءات”