كريم محمد
كاتب ومترجم مصري
بالنسبةِ إلى قطاع غير قليل، فإنّ ما توارثناه هو نسختان من الإسلام: إسلام العاديين أو الإسلام الشعبيّ؛ وإسلام العُلماء أو الخواص. الأول؛ أي هو إسلامٌ مليء بالبدع، والانحرافات، يختلطُ فيه الحقّ بالباطل، والثقافة بالدين، والتاريخ بالاستقامة. أمّا الإسلام الثاني، فهو إسلام نقيّ، يصلُ أحياناً إلى حدّ “المعياريّ” والمقوِّم للممارسات.
هذه الفكرة، إذا تتبّعنا جذورها تاريخيّاً، فهي ليست بجديدةٍ بتاتاً، بل كامنة في التصنيفات المتعلّقة برُتب الإسلام، ومقاماته ومستوياته على مستوى النّظر والعمل سواء.
في الحقيقةِ، فإنني مرتاب دائماً من فكرة تصنيف النّاس إلى عوامّ وخواصّ، وهذه هي الفكرة التي سيطرت، ليس على العقل الكلاميّ فحسب، بل على العقل الفلسفيّ العربيّ أيضاً. فإذا رجعنا إلى ابن رشد في كتابه “فصل المقال” مثلاً، فإننا سنجدُ أنّه قد قسّم فهم الإيمان إلى ثلاثة مستويات: البرهان والجدل والعوام.
وكما يوضّح محمد المصباحي في كتابه “الذات في الفكر العربيّ الإسلاميّ”، فإنّ حلّ مشكل الشريعة بالنسبة إلى ابن رشد هو في تحديد التأويل؛ أي في “وضع حدود” لفعل تأويل الشريعة نفسه: بحيث يكون أهل البرهان هم الأحقّ بالفهم الأنسب، وأهل الجدل، أي المتكلّمة، هم من يعرفون شيئاً وتغيبُ عنهم أشياء، أمّا العوام، المنبوذون دائماً، فلا بدّ وأن تتُوارى عنهم “حقائق” أهل البراهان.
على الرغم من التمسك بفكرة أنّ الإسلام دينٌ مشاعيّ، إلّا أنّ ما حصلَ تاريخياً وتراكمَ هو بالفعل إبكام من نسمّيهم العوام، وردّهم إلى شكلٍ من أشكال المعياريّة الصوابيّة. نظرياً، ما يُقال هو أنّ الإسلام حقائقه واضحة وبسيطة ويمكن للجميع تقاسمها، حتى وإن اختلفوا في تحصيلها، حسب شروطهم الرّوحيّة والاجتماعيّة والتربويّة. لكنّ الإيمان بتفاوت الوصول للحقيقة لا يعني خصوصيّتها أو احتجابها، بقدر ما أنّ الحقيقة الإسلاميّة نفسها تتكشف على نواحٍ مختلفة.
ولا يعني هذا بطبيعة الحال أنّ الخواص لديهم من الحقيقة ما لا يعرفه العوامّ، أو أنّ هناك إيماناً “عامّياً” وإيماناً أرقى منه. أعتقد أنّ هذه الفكرة أنتجت كوارث تراتبيّة على مستوى تاريخنا الداخليّ، بحيث نُبذَ إسلامُ العامّة (بكلّ تقاليده الحيّة، خطابيّة كانت أم روحيّة) لصالح إسلام الخاصّة، من فلاسفة ومتكلّمين (الذين هم مختلفون قطعاً، ولكنّهم يعدّون إيمان العامة أدنى درجة من الناحية المعرفيّة والرّوحيّة).
ولذلك، أتصوّر أنّ المذاهب الكلاميّة لم تكن مجرّد “كلام في العقيدة” يُلقى على عواهنه، بل إنّها كانت تسعى دوماً للتماهي مع سلطة سياسيّة معيّنة لفرض تصورها “الحقّ” على الإيمانات الأخرى الموجودة، لا سيّما إيمانات الناس الذين هم يمارسون الإسلامَ خطابياً بصورة أبعد ما تكون عن التجريديّ والنّظريّ، بل كأفق للحياة وكنظام للمعنى يشكّل الأخلاقيّ لديهم دون بلورة أو تحديد.
إنّ فكرة التماهي مع مؤسسة ما لحماية أفكار أو الترويج لها كانت مقبولة عموماً؛ لأن لسيف السلطان قوّة أكبر من سيف الإقناع بالطّبع. وعليه، رغم الأصول الحديثة لمأسسة الإسلام حديثاً في هيئة مؤسسات، ومأسسة “المدارس الإسلاميّة” كالأزهر مثلاً، لتكون مؤسّسة متماهية مع بنية القوميّ والسياسيّ هي آتية من فكرة الحفاظ على نمط معين من الإيمان المطلوب.
بل إنّ الأمر وصل إلى حدّ أنّ كثيرين لم يعودوا يتخيلون الإسلام بلا مؤسسة، وبلا “ناطق رسميّ” عنه، وكأنّها فكرة من صلب الإسلام نفسه.
المؤسسة الدينيّة الحديثة و”الحاجة إلى الدولة”
لا بدّ من إثارة نقاش حيوي ومفتوح بلا سقف حول البداهات التي تثوي حول “المؤسسات الدينية” في عالمنا الإسلامي، فإنّ جزءاً لا يستهان به يتعلّق أساساً بتفكيك هذه البداهات وإعادة ربطها بأصولها التي نشأت منها، حتى لا يمتلك هذا الموضوع أيّه سلطة مبدئيّة على عقل دارسه. وعلينا، أيضاً، أن نبدي عزاءً مناسباً لهؤلاء الذين اخترقتهم منظومة المؤسّسة، حتى صاروا غير قادرين على تصوّر الإسلام خارج هذه المؤسّسة.
ولا تقتصر المؤسّسة هنا على ما تطلقه الدولة عليها من هذه الصفة: كالأزهر، وهيئة كبار العلماء… بل تشمل كذلك الجماعات الدعويّة في المجتمع، والتي يظنّ هؤلاء بحتميّة توفّرها كحارسة رمزية لسقف الملّة. ما “المؤسسة الدينيّة”؟ وما هذه السلطة التي اتخذتها مجتمعيًّا حتى غدا النّاس لا يتصوّرون الإسلام إلّا داخل هذه المؤسّسة أو تلك؟
حقيقةً، إنّ تلك المؤسسات التي تنتشر في فضائنا الإسلامي ليست على تلك البراءة النظريّة والعمليّة التي تقدّمها للناس أو يتصورها النّاس عنها، بل هي مؤسّسات مُخترقة سلطويًّا، وبنيتها من الداخل بنية هرميّة، تريد تأطيراً للمجتمع الذي تعمل فيه، من خلال تقديم إسلام “رسمي” مُعترف به من قبل الدولة الحاكمة، وقراءة معيّنة للإسلام تريد أن ينقاد الجميع لها؛ حتى لا تكون هناك قراءات منافسة على الساحة الرسميّة للدولة من جهة، وحتى تكون قادرة على الاعتراف بشرعيّة ماديّة من قبل الدولة بجوار شرعيتها الرمزّية بوصفها مؤسسات تنتج خطابات علميّة إسلاميّة.
فالمؤسسات الدينيّة تسعى إلى صناعة إسلام “رسمي”، وما يخرج عليه فهو مُهدر، ومستباح، ويمكن للدولة أن تتخلّص منه بوصفه خارجيًّا. والمتأمّل يجد أنها، حقيقةً، لا تصدّر إسلاماً بقدر ما تصدّر قراءة تريد حمْل الجميع إليها، وأيّة قراءة منافسة هي قراءة غير معترف بها من قبل تلك المؤسسات ومن قبل الدولة على السواء.
وعلينا أن نسأل هاهنا وبجرأة: لماذا لا تكتفي هذه المؤسسات الدينيّة بشرعيتها التاريخيّة-السّنديّة، وتلجأ دائماً إلى قوة ماديّة، قوّة الدولة لتكتسب شرعيّة؟ بعض تلك المؤسسات بالطّبع لها مشروعيّة تاريخيّة كبيرة؛ كالأزهر مثلاً، وهذه الشرعيّة التاريخيّة هي ما ساعدت على استمرارها وصمودها التاريخي لتنتشر هذا الانتشار.
إلّا أنّ ثمّة علاقة خفيّة نريد تحليلها وتفهمها هاهنا، وهي تحوّل تلك المؤسّسة إلى مؤسّسة “رسميّة”، وتبلور ذلك كمفهوم تاريخي، واعتمادها من قبل الدولة.
فإنّ مؤسّسة كمؤسّسة الأزهر مثلاً لم تكن في القديم سوى مدرسة ضمن مدارس “علميّة” موجودة في الفضاء الإسلامي، فلماذا تحولّت إلى مؤسسة رسميّة لها ثِقل تاريخي ورمزي في آن؟
وللإجابة على ذلك لا بدّ أن نرجع إلى طبيعة الدولة العربية الحديثة.
لكنّنا لا بدّ أيضاً أن نؤكّد على دولتنا العربية التي نعيشها اليوم هي دولة سلطانيّة قديمة ولكن بشكل حديث ليس إلّا، وتلك “الحداثة” التي ننسبها إليها هي حداثة شكليّة من حيث طبيعة العلاقات التنظيميّة داخل تلك الدولة. أقول، إنّ طبيعة تلك الدولة هي طبيعة سلطويّة بالأساس، مع تبلورها وتشكّلها كان لازماً عليها أن تعيد مأسسة المجتمع من جديد والقوى التي تعمل داخل ذلك المجتمع بناءً على إستراتيجيتين: إستراتيجيّة الاحتواء؛ أي تلجأ الدولة إلى احتواء تلك القوى المجتمعية وتطويعها، واستعمار عالم الحياة، إذا استعرنا من هابرماس؛ واستراتيجيّة النبذ؛ أي تلجأ الدولة إلى نبذ أيّ قوى مجتمعيّة وتهميشها أو قتلها. ولأنّ الدولة واعية بذاتها وبسلطويتها، فإنّها تعرف القوى الرمزيّة والمؤثّرة في المجتمع المتمثّلة في المدارس العلميّة الشرعية مثلاً، ولا بدّ أن تطوّع مدرسةً ما وتعتمدها من قبلها؛ بناءً على شرعيّة تلك المدرسة التاريخيّة، ومقدرتها على التغلغل الاجتماعي. إنّ الدولة الحديثة عامّة لا تعترف بغير المؤسّسي، وأيّة سلطات منافسة لها مجتمعيًّا تحتويها.
ما أريد أن أؤكّد عليه، هو أنّ فهم تلك المؤسسات الدينية ينبغي أن يكون من خلال ربطها بالدولة العربية الحديثة بالأساس؛ لأنّها نتاج حداثي تماماً أنتجته الدولة، كي تهيمن على الدين وتؤطّره بقراءة ما توظّفها لصالحها.
وإنّ هذه المأسسة التي اتخذتها الدولة للدين بحصره في هيئة رسميّة أو أزهر ما أو وهابيّة أو أشعرية، هي التي أنتجت الأدلجة الحالية للدين، وجعلت من الدين ضدًّا للدين ذاته؛ بحيث أصبحت المؤسسة الدينية مجرّد مشرّع للحاكم المستبد والسلطوي، وتجد له تخريجات داخل الدين وتصدّر ذلك للمجتمع بوصفه الإسلام النقي ومن لا يتبعه فهو مباح الدّم.
أي أصبحت تلك المؤسسات تمتلك “سيادة” استمدتها من “سيادة” الدولة الحديثة، ولكنّها سيادة مضاعفة لأنّها ترى نفسها مجسّدة الإسلام، فتطابِق بينها وبين الإسلام.
لذا؛ علينا أن نفهم مصطلح “الخوارج” فيما هو أبعد من مجرد دلالته التاريخيّة على فرقة إسلاميّة، بل الخارجي في عُرف تلك المؤسسات هو الخارج على القراءة التي تقدّمها للإسلام، وهو الذي يناهض السّلطة -حتى ولو من منطلق إسلامي أصيل- ويدعو إلى انتداب الأمّة لمهمّتها التي سرقتها منها الدولة على حين التباس تاريخي لم نكن واعين به.
وثّمة نقطةٌ هامّة، وهي أنّ مأسسة الدين من قبل الدولة، جعلت هذه المؤسسات الدينية تنحّي الأمّة، وترى قصورها النظري والعملي؛ أي إن المؤسسة الدينية لديها تصورات جاهزة عن الأمّة بالأساس: فهي تضع نفسها مكان الوصيّ الرسمي على النّاس، لذلك هي لا تحاوِر الأمّة، وتدعوها، بل تريد أن تفرضَ عليه -بالقانون- تصوّرات معينة للإسلام وللسلطة وللعلاقات المجتمعية ولنمط حياتهم.
وهي مشكلة تتعلّق بالنّخب العربية عامة، إسلاميّة وغير إسلاميّة، تلك النخب التي تنظر إلى الأمّة بوصفها جاهلة، وفي مقابل ذلك تطرح نفسها كمخلّصة وتنويرية وهادية للأمّة.
هل تعترف النخب الإسلامية وغير الإسلاميّة بالأمّة وبحقّ وجودها ونمطها في التداول السياسي؟ يبدو أن إيماننا -تاريخيًّا- يزداد ويصدّق على عكس ذلك؛ يصدّق على أنّها نخب فاشيّة في أغلبها، تريد إنتاج منظومات سلطويّة تهيمن على الأمّة، وتبتغي تغيير محلّ القوى لا أكثر، دون إيمان عميق ومعترف به نظريًّا وعمليًّا بحقّ الأمّة وبدورها الأساسي في المنظومة الدينيّة والثقافيّة والسياسيّة.
وكما أشرتُ، فإنّني أرى أنّ هناك فكرة متأصّلة عن مأسسة الإسلام، والتاريخ يعيدها بأشكال مختلفة. في حين أنّ إسلام الناس “العاديّ” يُهمَل نظراً لالتزامات الانضباط المؤسساتيّة.
وفضلاً عن أنّ إسلام الناس غنيّ ومتنوّع وزاخر بممارسات تنزع التجريد عنه، وتجعله حيّاً دائماً (كما هو المطلب الإسلاميّ أصلاً)، فإنه أيضاً يتكيّف بصورة أكبر من إسلام الخاصّة مع الشروط التي يُوضَع، ويُموضَع، فيها.
وبينما مالت سلطة العلماء لأن تكون عاملةً دائماً على تجنيس الإيمان واحداً، فإنها كان عليها، وفق ما أرى، أن تحرس هذا التعدّد الخطابيّ والممارسيّ لأناس الإسلام.
نقلاً عن حفريات