أحمد الديباوي
كاتب مصري
يُعدُّ النقد أهم خصائص التفكير الفلسفي، فهو تفكير نقدي، في المقام الأول؛ لذلك يرى كثير من المفكرين والفلاسفة الغربيين، وعلى رأسهم الإيطالي كارلو سيني في كتابه “الفلسفة النظرية”، أنّ فعل التفلسُف يتحدد بكونه عملية نقدية، وتساؤلاً عن معنى وقيمة الحقائق، بما فيها الحقائق المرتبطة بالوضع الإنساني، فهو ممارسة يقوم فيها العقل بالتخلّي عن كل المعتقدات الدوغمائية، ومتابعة المساءلة باستمرار، وذلك بنقد كل الأحكام المسبَقة وكل الحقائق التي توصَف بأنّها مُطلَقة، فلا حقيقة تعلو فوق النقد؛ لأنّ الحقائق والأفكار نسبية ومحدودة، ليست مطلَقة ونهائية، وهو أمر لو آمن به كل إنسان لكان بعيداً عن تكفير الآخر؛ تمهيداً لقتله باسم المقدس، أو الشماتة بموته، أو الحُكم عليه بالخلود في النار، ما يعني ضرورة وجود الفكر النقدي لمواجهة التطرف والإرهاب.
جذور الفكر النقدي في التراث العربي ونقد رؤية حسن حنفي
في إطار مشروعه للتراث والتجديد، القائم على “علم الاستغراب”، كممارسة عملية لجدل “الأنا والآخر”، وتحرر “الأنا”؛ ثقافياً وحضارياً وعلمياً من هيمنة الآخر، يرى الدكتور حسن حنفي أنّ العقل النقدي لم يغِب من تراثنا الفكري القديم، والأنبياء أنفسهم طالبوا بالبرهان، فقد ذكر القرآن الكريم خطاب النبي إبراهيم -عليه السلام- مع ربه “وإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قلبي” البقرة260، كما أنّ تحري صدق الإيمان لا يكون إلا بالعقل، “قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ” البقرة111.
وقد كانت وظيفة العقل الدفاع عن الإيمان ضد مهاجميه، وهذا هو العقل الجدلي الذي يسبق العقل النقدي، وكان موجهاً نحو الخارج ضد المهاجمين للداخل، فلمّا استتب الأمر، تحوّل العقل من جدلي إلى نقدي لتأسيس الأسس في مقابل المنهج النقلي عند الفقهاء والمنهج الذوقي عند الصوفية، على حد تعبير حنفي، الذي نوافقه على أنّ للعقل النقدي جذوراً في التراث الفكري العربي، ولا سيما مع ظهور تيار المعتزلة على يد واصل بن عطاء، في بداية القرن الثاني الهجري؛ فقد كانت مباحث المعتزلة الكلامية وأفكارهم الجدلية الفلسفية، وموقفهم النقدي من الفقهاء والمحدثين، دليلاً على نشوء وتطور العقل النقدي في الإسلام، بيْد أنّ دفاع حسن حنفي عن تلك الرؤية جاء عاطفياً أكثر منه عقلياً وعلمياً؛ فهو يبالغ ويدّعي أنّ العقل النقدي يظهر بوضوح أكثر في علم مصطلح الحديث، الذي يقوم العقل فيه بوضع قوانين عامة لضبط صحة الرواية وأهمها التواتر(..)، والأمر على خلاف ذلك؛ فلم ينل علم مصطلح الحديث قسطاً من إعمال العقل والنقد، وإنما كانت قواعده التي اصطلح عليها المحدّثون قائمة على الرواية، حتى إنّ حنفي، نفسه، يعترف كما لو كان يتناقض مع نفسه، بأنّ القدماء ركزوا على نقد السند دون المتن، ويعيب عليهم أنّهم لم يطوروا هذا العلم، فينتقلوا من نقد السند إلى نقد المتن.
أصالة الفكر النقدي للمعتزلة في مجال علم الحديث
حقاً، كان للنقد حضور في مصطلح الحديث، لكنه حضور دون مناهج وقواعد، فقد “تلوّنت ظاهرة جمع الحديث وتدوينه بالتيارات الفكرية المختلفة.. كما تدخلت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمحدّثين في تقييم الأحاديث” (محمود إسماعيل، سوسيولوجيا الفكر الإسلامي، ص163 وما بعدها)، فنقدُهم لا يُقارَن بمنهج المعتزلة، الذين لا ينكرون المرويات والنصوص الحديثية جميعها، كما يُشاع عنهم ذماً وتشويهاً؛ بل إنّهم ليُقدّرون حاجة الإنسانية إلى الرواية وإلى سماع الأخبار، لكنهم في الوقت نفسه لا يُسلّمون بتلك المرويات لمجرّد روايتها منسوبة مرفوعة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أو إلى أحد أصحابه، رضي الله عنهم، بل يضبطونها بميزان العقل، وينقدونها نقداً نفسياً وعلمياً وتاريخياً، وذلك قبل أن يضع المحدّثون مبادئ نقد الأحاديث، لكن ظلّ منهج المعتزلة في نقد المرويات والتعليق عليها هو المنهج المحكوم بالقواعد؛ لاعتماده على العقل وعلى نقد المتن (النقد الداخلي) دون السند (النقد الخارجي).
ما يلزم لوجود العقل النقدي عربياً
والعقل النقدي يلزم له وجود مسارات معرفية متعددة، وامتلاك القدرة على التفكير، وتفكيك المسلَّمات، والخلاص من أسْر الأيديولوجيات السائدة، والاشتباك مع المؤسسات الدينية اشتباكاً إيجابياً، من خلال منظور نقدي لا يُعاديها بل يتفاعل مع خطابها التقليدي، وانتقاده وَفق رؤى منضبطة ومناهج محكَمَة، خصوصاً في ظل هذا الرُّكام المعرفي الذي يتكدّس يومياً بفعل الخطاب الديني المتجذّر في شتى مناحي الحياة؛ في الاقتصاد، والسياسة، والواقع المعيش المعقَّد، والتعليم، والثقافة، والفنون، والحياة الاجتماعية بصورها المتعددة، ما يلزم معه تفكيك تلك البنى المعرفية، ونقدها في سبيل إعادة خطاب جديد، غير تقليدي، يلامس الواقع في صيرورته.
وقد يكون، ما سبق ذكره، نظرياً أكثر منه عملياً أو تطبيقياً، خصوصاً مع انحدار وتراجع العقل النقدي والفلسفي في العالم العربي، وعدم تبلور رؤية عربية موحَّدة لدراسة الفلسفة، التي تُعد حقلاً مثالياً وخصباً للنقد والتفكير ومواجهة التطرف والإرهاب، سواءً في مستوى التعليم ما قبل الجامعي، أو مستوى التعليم الجامعي وما يليه، الأمر الذي يضع مستقبل الفلسفة في العالم العربي في مأزق، ربما يكون امتداداً لمأزقها بعد أن حطّمها الغزالي، فساءت سُمعتها وسُمعة المشتغلين بها، رغم تصدّي ابن رشد له، معلناً تهافت طرحه، الذي يجعل من الفلسفة مدخلاً للكفر والزندقة.
مبادرَة جامعة القاهرة للارتقاء بالعقل النقدي تعليمياً
ومن المبادرَات الممتازة في سبيل الارتقاء بالعقل النقدي في حقل التعليم، مبادرة جامعة القاهرة، في تدريس مقرر التفكير النقدي العقلاني، خلال العام الدراسي 2018؛ لإكساب وتزويد الطلاب بمهارات التفكير النقدي، وتطبيقها في جميع المواقف والمجالات والمشكلات التي يواجهونها في حياتهم اليومية، ورصد الأخطاء الشائعة في التفكير، وتعليمهم استجابات متعددة للموقف الواحد، على عكس ما يتعلمه المتطرف أو المتشدد الذي لديه حقيقة واحدة، واستجابة واحدة للموقف الواحد؛ فتعددية الصواب يقوم عليها مقرر هذه المادة، على حد تعبير الدكتور محمد عثمان الخشت، رئيس جامعة القاهرة.
نقلاً عن حفريات