صبحي نايل
باحث مصري
حسب المرويات التاريخية، كان الاكتشاف عادة قرين الخطر، فالخبرة الإنسانية المعاصرة جاءت من رحم تحريك الأشياء من ثباتها الوظيفي ومحاولات الاكتشاف والتساؤل، فرجل الكهف لو أنّه لم يحاول الاكتشاف والتساؤل؛ لظلّ كما هو في كهفه، بيد أنّ محاولاته تلك أفضت إلى تحريك الأشياء من ثباتها الوظيفي؛ ومن ثم صنع الحضارة، فلو داوم على استخدام الأشجار للإطعام فقط، لمات من البرد، ولو استخدمها للتدفئة فقط، ما كان له أن يصنع المنزل والأثاث وكل ما هو مريح.
الوصول إلى هذه الصورة من الراحة والتطور، مرّ بمراحل من الإخفاق وإعادة البناء، فالخطأ سمة إنسانية قد تميزه عن الآلة والحيوانات، ولكن ماذا إذا سُحب من الإنسان حق الخطأ؟
ربما يعني ذلك أن تسحب منه كافة قدراته الإنسانية، خاصّة العقلية، مع سحب هذا الحق، حيث إنّه في هذا الحين يصبح مقيداً ومشلولاً؛ لأنّه ليس من حقه أن يخطئ، ومن ثمّ ليس من حقه أن يحاول الاكتشاف والتساؤل خشية الوقوع في الخطأ.
الخطأ طريق الصواب
كثيراً ما ردد المفكر المصري نصر حامد أبو زيد أنّه يدافع عن حق الخطأ، لأنّ السياقات العربية تعاني من شلل شبه تام، أفضى إلى هزيمة 1967، التي كانت فاجعة أيقظت الفكر العربي، كما حدث من قبل في العصر الإصلاحي، فقد كانت صدمة حضارية كالتي صنعتها مدافع نابليون أمام سيوف المصريين، الذين خرجوا في الشوارع يهتفون: “يا خفي الألطاف نجنا ممّا نخاف”. فقد أنتجت هزيمة 67 جيلاً عمل على نقد واقعه والفكر القائم، كصادق جلال العظم، ومحمد أركون، ونصر حامد أبو زيد، وفهمي جدعان، ومحمد عبد الجابري، وغيرهم.
ويمكن القول إنّ مجمل جهود مفكّري هذا الجيل كانت تتمحور حول مشروعية وضرورة السؤال عن واقع أفضل ونقد الواقع القائم، وكان مجمل دفاع نصر حامد أبو زيد ـ خاصّة أنّه تمّ تكفيره وتطليقه من زوجته- عن الحق الإنساني في الخطأ الذي سلبه رجال الدين، وكثيراً ما ردد عبارته الشهيرة “الخطأ طريق الصواب”، وهي عبارة تساندها الإنثروبولوجيا والعلوم المعاصرة واستقراء التاريخ الإنساني، فما كانت الحضارة الإنسانية سوى بنت الخطأ الذي أشار إلى الصواب.
وفي السياق العربي/ الإسلامي؛ تُعدّ غالبية المعارف ذات نتائج مقدسة تسبق رحلات البحث والمعرفة، فالنتيجة في العقل العربي/ الإسلامي تسبق البحث، وغير مسموح بنتائج مخالفة ـ خاصّة في المعارف الإسلامية ـ وإلّا كانت هناك عواقب غير محمودة، من الاغتيال المعنوي والطرد من الدائرة الإيمانية، وأحياناً الأُطر الاجتماعية، ممّا يفضي عادة إلى أن يكون صاحب الرأي المختلف والبحوث المختلفة منبوذاً وشريداً، وهذا ما حدث مع غالبية الباحثين الذين امتلكوا حساً نقدياً، ورؤية تعمل على الاستقلال، ومثال نصر حامد أبو زيد خير دليل على ذلك.
الخطأ كأداة بناء للذات
حسب تقسيم جان فرنسوا بيار الشهير، ثمّة نمطان للهوية: “ما يدوم من ناحية، ومن ناحية أخرى ما يُبتَكَر”؛ أي تلك الهوية التي تظن الذات أنّها ولدت بها وهي دائمة، والهوية التي تبتكرها الذات وتصنعها لتقدم نفسها من خلالها، ويُعدّ هذا النوع الأخير مقبولاً بالنسبة إلى العقل المعاصر، حيث تمثل الذات بناءً يتم بناؤه بخطوات متتالية، وليست شيئاً سابقاً على وجودها لا يمكنها تغييره، فالحياة من وجهة الكائن الذاتي كما يقول ناصيف نصار: “إبداع متواصل للمعنى، وممارسة فعلية لمقتضياته”.
ويقتضي الإبداع وجود مساحة للخطأ كي يتمكن الفرد من التفكير وعدم الخوف من السقوط في هوة لا يعود منها، فالسعي نحو ما هو جديد وغير مألوف؛ يقتضي بالضرورة وجود احتمالية كبرى للخطأ، فما هو جديد وغير مألوف بطبيعة الحال غير مأمونة عواقبه، بهذا المعنى يشكل غياب حق الخطأ غياباً للتساؤل، ومن ثم غياباً لدور الذات كذات فاعلة ومؤثرة.
والخطأ من حيث هو وليد شرعي للاجتهاد الجاد والاكتشاف والسؤال؛ يُعدّ أداة لبناء الذات، كما أنّه يمثل بشكل أو بآخر معبراً إلى الصواب، فالخطأ كمعلم تشهد له بالبراعة، من حيث إنّ دروسه لا تُنسى، ويشير إلى طريق الصواب باختبار احتمالية طريق ما أفضت عملية الاختبار إلى عدم صلاحيته.
بيد أنّ السائد والمستقر كثيراً ما يتجلى من خلال العقيدة الدينية، وفي ظروف مجتمعات كالمجتمعات العربية، ترى ميزتها في امتلاك الدين والأخلاق، لغياب أيّ ندّيّة فعليّة تجاه الآخر، فإنّ الخروج عن السائد والمستقر يمثل خروجاً عن الدين، ومن ثم انهزاماً للذات وسقوطاً لميزتها، لذا لا تتوانى في الاغتيال المعنوي لأيّ رؤية نقدية، أو التصفية الجسدية، بما أنّ التصفية الاجتماعية والدينية مقدمة ضرورية للتصفية الجسدية، وفي حال الاغتيال المعنوي؛ ثمّة أمثلة عديدة، والجسدي كذلك أيضاً، ولعل أشهرها تصفية فرج فودة.
منطق المرجعية وغياب الذات
عادة ما يُولّد غياب حق الخطأ قصوراً في ثقة الذات بنفسها، لأنّها في هذا الحين تكون عاجزة عن الحضور الفعلي من خلال المغامرة والاكتشاف، أو بناء خبرات ذاتية لها عبر الوقوع في الخطأ وتفاديه، ويفضي هذا إلى سيطرة منطق المرجعية التي تتخفى الذات خلفه، وتحاول أن تشرعن رؤيتها من خلاله، فإمّا أن تشرعنها من خلال التراث الإسلامي، وإمّا من خلال المنجز المعرفي الغربي، مستبعدة أن تشرعن الفكرة ذاتها من خلال القبول المنطقي لها، وثباتها أمام العقل، وهذا ما جعل نصر حامد أبو زيد يقول: “نحن ثقافة تعبد النصوص، فيكفي أن تقول قال فلان ويتوقف العقل”.
وفي ظني أنّ استدعاء الذات للمقولات سواء الإسلامية منها أو الغربية، هو نوع من محاولة تخفيف التوتر بينها وبين الواقع، الذي لا يكون مرضياً لها على كل حال، وحيلة تلجأ إليها بشكل واعٍ أو غير واعٍ لإدارة أزماتها.
إنّ سحب حق الخطأ بشكل أو بآخر يعني انحصار الذات، وتوصيل رسالة ضمنية بعدم صلاحيتها للمغامرة والتساؤل وإنتاج الأفكار، ويتضح هذا في تقديس المنجز المعرفي الإسلامي، ومن ثمّ تلجأ الذات إلى التفكير بوساطة عقل ما عادة لا يمثلها، وغير نابع من أزمتها، وهذا ما جعل الذات العربية كما يقول علي أومليل تقع بين أصوليتين: “أصولية إسلامية تختزل الثقافة العربية الإسلامية بتعددها وتنوعها إلى دين، وتختزل الدين إلى عقائد متشددة، وتعتبر أنّ الإسلام ـ كما تتصوره – في غنى عن أيّ حوار مع جاهلية العصر؛ أي الثقافة الغربية ومن نسج على منوالها.
وهناك أصولية غربية تعتقد أنّ قيم الحداثة (الحرية، الفكر النقدي، الديمقراطية الليبرالية، حقوق الإنسان) هي قيم غربية حصراً، فلا طريق للتحديث سوى التغريب”، فسحب حق الخطأ فرض على الذات؛ إمّا التفكير من خلال الأصولية الإسلامية، والعقل الذي تمّت صياغته في عصر التدوين، كما يقول الجابري، وإمّا التفكر من خلال المنجز الغربي، ومحاولة فرضه على المجتمعات العربية.
الواقع العربي يقع بين رهانين مفارقين له، فثمّة من يرى في التاريخ الإسلامي والمنجز الفقهي حلاً لكافة الأزمات والمشكلات المعاصرة والتالية، ويرى في نسخة متخيلة من التاريخ الإسلامي الذات الإنسانية الأكمل، التي تحمل طابعاً طوباوياً، يستعصي على الوجود الواقعي، ويطالب العالم بالمثول لهذا التصور.
ومع الانهزام العربي أمام الحداثة والتبعية التي يفرضها الانتصار الحضاري، ظهر اتجاه آخر يطالب الواقع العربي بالمثول للحداثة، متغافلاً عن أنّ الحداثة منجز عقلي، جاء من خلال واقع واجه أزماته وعايشها، واختمار معرفي أدى إلى التبشير بالحداثة والمطالبة بها، ومن ثمّ ميلادها كتجربة ومثولها في الواقع. ومحاولة فرض الحداثة على الواقع وتقديمها كممثلة للتقدم وللعقل الإنساني، وفرض التاريخ الإسلامي والمنظومة المعرفية الإسلامية القديمة، كمستقبل يجب فرضه ومعرفة تجيب عن أزمات العصر، أفضيا إلى وجود نمط معرفي منعزل عن واقعه، وواقع يتحايل على أزماته بوسائل بدائية غير نخبوية، مذمومة في العادة من النخبة التي تعاني الانفصال عن الواقع، والوقوع في براثن تصورات وحلول مسبقة، ومن ثمّ تحاول فرض هذه الحلول الجاهزة على الواقع، ولا تطرح التساؤلات على الواقع أو تخوض في غمار مغامرة إنتاج حلولها الخاصّة النابعة من واقعها، خشية وقوعها في الخطأ المسلوب منها حق الوقوع فيه، سواء كان بوعي منها أو بغير وعي.
بين الذات والآخر
على الذات، إذا أرادت أن تكون ذاتاً ـ حسب ما يطرحه ناصيف نصار ويؤيده التاريخ والعقل الإنساني المعاصرـ أن تحفظ المسافة بينها وبين الآخر، وتتجنب الاتحاد به، والتماهي معه، ولا تلغي المسافة، ولا تبطل الاختلاف، فهي ذات ولا يمكن أن تكون الآخر، و”الكائن الذاتي يصنع ذاته بذاته، وبالعمل على ذاته”.
وهما أمران تفتقدهما الثقافة العربية في حال سحب حق الخطأ منها، وسيطرة منطق المرجعية كآلية تتخفى وراءها، أو إسناد يثبت صحة وصلاحية طرحها كما أوضحت السطور السابقة، إذ ترى أنّ الذات جاهزة وحاضرة وفي حاجة إلى استيرادها، إمّا من التاريخ القديم (الحامل طابع التقديس العقائدي)، وإمّا من الحداثة (الحاملة للتقديس العقلي والصوابية العقلية)، وليس صناعتها، وهو ما يجعلها في حالة تغريب مزدوجة مدفوعة نحو اتجاهين لا يمثلانها، وغير واعية بذاتيتها أسيرة لتمنيات وتصورات لأوضاع ممكنة لها، تفرض عليها، غير نابعة من بنيتها ورؤيتها الواقعية؛ لذلك تفتقد لأبسط آليات التطبيق الواقعي؛ كونها تنطلق من واقع مختلف كليّاً في أزماته وأدواته ودينامياته؛ ذلك أنّ “النظريات والمذاهب الفلسفية الاجتماعية، لا تخترق العصور والمجتمعات كالأشعة السينية. فهي بنات المجتمع والحضارة في مرحلة معينة من مراحل تطورهما، ولا يخصبهما التبنّي إلا بقدر ما تتلاءم مع القدرة الخلاقة في المجتمع المنقول إليه”، وذلك بحسب ناصيف نصار.
وأوّل أدوات بناء الذات كذات هو إعطاؤها حق الخطأ؛ لينفتح أمامها باب التجريب ودائرة الاحتمال، لا الاحتماء بما هو كائن، والأنساق المعرفية القديمة؛ خشية الوقوع في الخطأ، وإدراك أنّ الخطأ فعل إنساني مشروع يميز الذات عن غيرها، فحين مدح الله ـ عزّ وجلّ ـ عبده أيوب قال: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}، وهو بمثابة تبليغ من الخالق، سبحانه، أنّ سمة الإنسان الخطأ، كما أنّ التاريخ الانساني يشهد للخطأ كمعلم ومنتج للمعرفة.
إنّ حق الخطأ يفتح باب التساؤل عن الواقع المطروح والبحث عن إجابات، لا وجود إجابات جاهزة سواء من التاريخ الإسلامي، أو من الحداثة كممثلة للعقل والصوابية المطلقة. طرح السؤال والبحث عن إجابات جديدة تطبق على الواقع المأزوم، وقد تفضي إلى خطأ أو تنتج نمطاً معرفياً جديداً، المهم أنّ حق الخطأ يفتح الباب أمام التساؤل والمغامرة، ويمكّن الذات من التعبير عن نفسها، وهو أمر يعطي للذات ذاتيتها، وهو ما تفتقده الذات العربية.
نقلاً عن حفريات