سامي أبو داود
كاتب أردني
يماهي أصحاب الفكر الديني الإسلاموي بين الإسلام، وتاريخ المسلمين، ما يؤدّي إلى تقديس تاريخنا، وعدّه جزءاً من الدين؛ أي “تديين التاريخ”، وبالتالي، لا يجوز التعرض له، بالمساءلة والنقد والدَرس، وهذا الإلحاق للتاريخ -كتجربة بشرية- بالنصّ المقدّس، أدّت، وتؤدي، إلى عصمة شخوصه وأحداثه؛ أي إنَه أصبح من لوازم الإيمان!!
ولقد أحدث الناطقون بلسان السماء من أسلافنا قديماً، والإسلامويون حديثاً، هذه البدعة؛ عندما اخترعوا نظرية عدالة الصحابة جميعاً (السنّة)، أو عصمة آل البيت، ومن سار في فلكهم من الصحابة (الشيعة)، وبذلك غدت هذه المقولات، أو النظريات الفقه –كلامية، من أسس الاعتقاد المذهبي لكلا الطرفين، ومن ثَمَّ التعالي بها فوق التاريخ البشري؛ حيث تعدّ أفعال هؤلاء الصحابة، وتابعيهم، وتابعي تابعيهم، معصومة، أو هي جزء من حركة الدين وصيرورته، وتحققه في الزمكان، لذلك من يجرؤ على تحليل صراعاتهم ونقدها، فهو يستبيح حمى الدين، ويعدّ مهرطقاً أو زنديقاً!!
لذلك عدّ الناطقون بلسان السماء، أنَ ما اصطُلح عليه في كتب التاريخ والسير والملاحم بأنّه “الفتنة” أو “الفتن”، أو ما جرى بين الصحابة، من قتال وصراع، على السلطة السياسية في صدر الإسلام الأول، وما تلاه من صراع على الحكم، بين بني أمية وبني العباس، وصولاً إلى آل عثمان الأتراك، ما هو إلّا خلاف تم بين أخيار اجتهدوا وأوَّلوا، فلهم أجرهم، بالتالي؛ لا يجوز اتهام أيّ واحد من هذه الحقب، أو نقدها وتحليلها؛ لأنّها أدمجت ضمن دائرة المقدس، فالشوائب إن وجدت هي مدسوسة، ولا يجب تصديقها.
وقد تم تدشين هذه النظرة العصموية لتاريخنا، المتماهية مع الدين، في عصر التدوين، ونشأة المذاهب الكلامية والفقهية، في القرن الهجري الثاني؛ أي بعد ظهور الإسلام بمائة وخمسين عاماً، على الأقل.
فعندما انقسم المتكلمون إلى مدارس فكرية وأحزاب سياسية متصارعة: سنّة، شيعة، معتزلة، خوارج، مرجئة، …إلخ، أعادوا قراءة الإسلام وتاريخ المسلمين، بأثر رجعي، مستندين إلى مرويات وصلتهم، صنعها ونسجها رواة لهم أهواء، وتحزبات، وميول، فوقع الخلط والتماهي المقصودان، لنصرة أدلجة ذلك الفقيه أو المتكلم، لتوظيفها في السجال الفكري، والصراع على الشرعية السياسية والدينية آنذاك، فانتقل الصراع بذلك، من ميدانه السياسي والاجتماعي إلى ميدان الدين والمقدس.
وامتدّ تديين التاريخ ليشمل كل الدول التي نشأت في تاريخ الإسلام والمسلمين؛ الخلافة الراشدة، الدولة الأموية، الدولة العباسية، الدولة الفاطمية، الدولة المملوكية، الدولة العثمانية، بحيث إنَه لا يجوز انتقاد هذه الدول، أو الأسر التي حكمتها؛ لأنّ تاريخها هو تاريخ ومسيرة الإسلام نفسه، وبذلك أصبحت غزواتها وفتوحاتها وحروبها من الدين، وفي سبيل الدين، ولأجله، خالصة لوجه الله، وليس لها أيّة أهداف؛ سياسية، أو اقتصادية، أو اجتماعية!
ومن هذه التجربة البشرية، المتعالية على الزمكان، صاغ الناطقون بلسان السماء، آنذاك، القواعد والأصول، العقائدية والسياسية، لعلوم الدين؛ أي إنّ التاريخ وما حدث فيه، أصبح من مصادر العقيدة والفقه، فاشتقت منه المقولات والأحكام التي صارت ديناً يجب التعبد به، أو السير على خطاه، فهذه القرون خير القرون، وبالتالي؛ هي الأصل الذي يجب أن نعود إليه، وننهل منه.
لذلك كلّه؛ نحن نعاني الآن من ثقل وطأة هذه الأدلوجة التي ماهت بين الدين والتاريخ؛ حيث إنّنا لا نستطيع تحليل أيّة حقبة من حقب تاريخنا، أو تفكيك مقولة من مقولات أصحاب المذاهب، التي صاغوها نتيجة ظروف وسياقات تاريخية ما، إلّا بعد دفع أثمان كبيرة، واتهامات تصل درجة الكفر والتكفير، فالنظرة التقديسية تلك منعت نقد تاريخنا وأحداثه؛ لأنّه غدا من صميم الدين، رغم أنّه من صنع البشر!!
وقد تغذى الإسلام السياسي اليوم، ومن شايعه، على هذه الأدلوجة الفقهية القديمة، واستعملها كترسانة فقهية وعقدية، لتوظيفها في صراعه، ضدّ مجتمعه ودولته الوطنية، والآخر المخالف له، فوقع بذلك في أسر الماضوية، التي عدّها المثال والنموذج الذي يجب أن نسير عليه.
إنّ تقديس التاريخ، وإدماجه في الدين، عطّل النقد، وأدّى إلى التطرف والتعالي، والشعور بالزهو المبالغ فيه، وإلى شيوع أدلوجة الاصطفاء، والأمة المنقذة للعالم، وتهميش الآخر ومعاداته؛ بل ومهاجمته في عقر داره بحجة جهاد الطلب أو الدعوة؛ لأنّه ينتمي إلى دار غير دار الإسلام، فهو ينتسب لدار الكفر، التي اخترعها سدنة الدين، وحرّاس الاعتقاد؛ لإرضاء السلطة السياسية آنذاك، وإشباع نهمها في الحصول على الريع، والتوسع، مُلبسين ذلك كله، لبوساً دينياً، رغم أنّه؛ أي التاريخ، شأنٌ دنيوي، لا علاقة له بالدين والمقدّس.
نقلاً عن حفريات