إياد العوادي
كاتب يمني
ظهر مفهوم الثقافة خلال عصر التنوير في فرنسا في القرن الـ 18، وارتبط مفهوم الثقافة بعملية التنوير بهذا الصدد، حيث برزت الثقافة كفعل طبقي تنويري، قامت به الفئة المتعلمة المستنيرة لنشر العلم والمعرفة والفن في أوساط فئات المجتمع الجاهلة، من أجل خلق مجتمع نهضوي مستنير محب للفن والجمال، يستوعب التغييرات العلمية التي ظهرت خلال عصر النهضة وما بعده، مجتمع قادر على الانعتاق من ربقة العادات والتقاليد الدينية المعادية للعلم والتطور، ومن الحروب الطائفية الدينية التي تسببت في الكثير من القتل والدمار، نحو خلق مجتمع تسوده القيم العلمانية كالحرية والمساواة والتسامح الديني.
يقول عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان: “دخلت “الثقافة” قاموس المفردات الحديثة باعتبارها إعلاناً للنيات، واسماً لرسالة لا بدّ من القيام بها، وكانت الثقافة وحدها كلمة براقة ودعوة للفعل”،[1]واتخذت هذه المفردة منذ بدايتها منحى طبقياً، يميز بين المتعلمين، ورجال التنوير من جهة، والجهلة من الفلاحين والمزارعين وغيرهم من جهة ثانية، فكانت الثقافة بهذا المعنى وسيلة رجال التنوير لنشر المعرفة والعلم في أوساط عامة الشعب، وتثقيفهم وتهذيبهم للنهوض والارتقاء بهم.
وتزامن ظهور عصر التنوير مع التطور الصناعي الذي مرّت به أوروبا خلال القرن الـ 18، ممّا شكل دافعاً قوياً للرجل الأبيض للتفكير في نشر رسالة التنوير أو ثقافة التطور خارج بلاده، وخاصة في تلك البلدان التي تعيش “حياة بربرية”.
ومع أنّه كان هناك هدف آخر يتخفى تحت عباءة نشر التنوير، وهو الكثافة البشرية التي ازدادت خلال تلك الفترة في بلاد أوروبا، والرغبة في إيجاد بلدان أخرى لاحتوائهم، فإنّ فكرة نشر رسالة التنوير باستخدام العنف والقوة، هي فكرة استعمارية إمبريالية؛ لأنّها تنتهك حق الإنسان في أن يختار ما يرغبه، إضافة إلى أنّها تفترض مسبقاً مفهوماً محدداً للتنوير، بصفته نمطاً معيّناً من التطور، وتلغي كل تعريف أو مفهوم مخالف له، ولأنّها ترى في نفسها المالك الشرعي لتحديد ما هو صواب وما هو خطأ، انطلاقاً من مبدأ ليبوسيه: “من حقي أن اضطهدك، لأنّي على صواب وأنت مخطئ”.
ما هي الثقافة؟
محاولة تعريف الثقافة هي من أصعب الأمور التي تواجه كل باحث أو كاتب في الموضوع؛ فالثقافة يشار إليها غالباً على أنّها مفهوم غامض، أو مبهم[2]، وقد قال عنها ريموند وليامز: “إنّ الثقافة ليست فقط إحدى أصعب مفردتين أو ثلاث في اللغة الإنجليزية، بل إنّ الممارسة الثقافية والإنتاج الثقافي ليسا فقط مشتقين من نظام اجتماعي قائم بذاته، وإنّما هما عنصران أساسيان في تكوين النظام وبنيته”[3]، وبالتالي فالثقافة هي شيء متغير باستمرار، يؤثر في النمط الحياتي للناس وفي تفاعلاتهم المشتركة،
ويتأثر بها كذلك، والثقافة وإن كانت تتضمن العادات والتقاليد والقيم الأخلاقية لمجتمع ما، إلا أنّ هذه العادات والقيم هي شيء متغير بشكل ديناميكي، ولعل هذا التغير يبرز بوضوح في عصر العولمة والثقافات العابرة للقارات، حيث تتقاطع الكثير من الثقافات، ويتغير الكثير من القيم، ويتفكك الكثير من العادات والتقاليد، ولا شكّ أنّ الدعاية الرأسمالية المركزية لها الدور الأكبر في هذا التغيير، الذي يظهر بوضوح، مثلما يظهر في بقية أمور الحياة، في الفن والذوق والعام.
الثقافة بوصفها شكلاً طبقياً للمجتمع
لا يقتصر معنى الثقافة على الاطلاع والمعرفة؛ فالثقافة تشمل جميع مناحي الحياة بالنسبة إلى المرء؛ أي إنّها النمط العام الذي يشكّل تفاصيل حياته، فهي تعني الطعام الذي يحبه، والموسيقى التي يستمع لها، والبرامج والأفلام التي يفضل مشاهدتها؛ أي يمكن القول إنّ الثقافة هي التي تلعب الدور الأكبر في تحديد الذوق العام لمختلف فئات المجتمع، فالفنون تتنوع وتختلف طبقاً لاختلاف فئات المجتمع، سواء أكانوا أرستقراطيين، أم برجوازيين، أم عمالاً، متعلمين، أم أمّيين، بحيث يخاطب كل فن فئة محددة من المجتمع، فهناك ما يُسمّى “الفن الراقي” أو الثقافة الراقية للطبقات العليا، وأذواق سوقية “هابطة” يتميز بها أصحاب الطبقات الدنيا، وأذواق متوسطة قد تكون معادية للفن والجمال بين الطبقات الوسطى، والتي قد تكون مزيجاً من الفن الراقي والفن الهابط، وهنا يحضرني ما ذكره سورين كيركجارد عن مسارح برلين في كتابه التكرار: “ما يُعرض في الأوبرا هو أوبرا وباليه للجمهور، أمّا ما يُعرض في المسرح، فيجب أن يكون تنويرياً وتعليمياً، وليس للتسلية”.
وقد لعبت الأعمال الفنية ـكما يذكر عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديوـ دوراً مهمّاً في إبراز الفروقات الطبقية في المجتمع وتمييزها، وكانت ترسم الحدود بين الطبقات وتحميها؛ أي إنّ أهميتها تكمن تحديداً في تكريس التفاوت الطبقي للمجتمع، من خلال تمييزها بين أنواع الفنون المختلفة ومنع أيّ توافق بينها.
ورأى بورديو كذلك “أنّ الأثر الثلاثي لتلك العروض الفنية (التعريف الطبقي، والفصل الطبقي، وإظهار الانتماء الطبقي) كان العلة الجوهرية لوجودها، وأهم وظيفة اجتماعية لها، وربما هدفها الخفي، إن لم يكن هدفها المعلن.[4]
الثقافة والفن في زمن العولمة
إنّ إشكالية الثقافة اليوم هي بالتحديد ميزتها التي جعلتها مختلفة عن سالف العصور؛ فالثقافة اليوم أصبحت كونية، والفن أصبح عابراً للحدود والبحار، هذه السمة الكونية للثقافة جعلتها تترك رداء الطبقية، وتتحول إلى مزيج شامل عام يجمع القبيح والحسن، إذا كان ما يزال بإمكان المرء القول إنّ هناك فناً قبيحاً وفناً حسناً، فقد تحدث فرانسيس فوكوياما عن نهاية التاريخ، المتمثلة بانتشار الديمقراطية الليبرالية، التي ستطبّق على كل البشر، وبمجرد تحقيقها سيصل التاريخ إلى ذروته، وحينها ستموت الجماليات، لدرجة أنّه لن يصبح هناك فرق بين بيتهوفن والبوب.[5]
فالمثقف اليوم ربما ما يزال يحب الاستماع لموسيقى موزارت، وأغاني أم كلثوم، وهو يقرأ كتب نيتشه، وفرويد، وروايات دوستويفسكي، ويدخن سجائره في الوقت الذي يحتسي فيه القهوة في مكان هادئ منعزل، وكأنّه يمارس طقوساً شبيهة بالصلاة، لكنّه على الأرجح لن يمانع، وربما سيستمتع بالاستماع لأغاني البوب، والأغاني الشعبية كأغاني محمد رمضان، ولن يمانع في الخروج إلى الأماكن الصاخبة، والاستمتاع بالحفلات الراقصة على أنغام الديسكو، فهو مثقف كوني يلتهم كل شيء، ولا يشعر بأنّه مطالب بالالتزام بنوع محدد من الفن، طالما أنّ كل شيء أصبح جزءاً من الفن، وطالما أنّه لا توجد معايير لتحديد الحسن، وتمييزه عن القبيح، فتلك الفروقات أصبحت مجرد “رأي شخصي” تعبّر عن رأي صاحبها لا عن الفن في حدّ ذاته.
هوامش:
[1] الثقافة السائلة/ زيجمونت باومان ص16.
[2] مقال بعنوان “ماهية الثقافة”/ موسوعة ستانفورد للفلسفة، نقلاً عن موقع حكمة.
[3] دليل الناقد الأدبي/ د. ميجان الرويلي و د. سعد البازعي، ص140.
[4] الثقافة السائلة/ زيجمونت باومان ص13
[5] مقال بعنوان “أغلوطة التقدم”/ موسوعة ستانفورد للفلسفة، نقلاً عن موقع حكمة.
نقلاً عن حفريات