أحمد سالم
كاتب مصري
نشأ الفقه بهدف تحقيق وحدة الجماعة المسلمة في عقائدها وشعائرها وعباداتها، ومعاملاتها، وطقوسها، كما سعى إلى تدبير ضبط حركة الاجتماع البشري تحت راية السلطة السياسية؛ لذا كان للفقهاء سلطة كبيرة على الجماعة المسلمة، وعلى شؤون تدبير الجماعة، وبالتالي المجال العام الاجتماعي.
من جهته، صرف التصوّف همّه على بناء الفرد، ومحاولة الوصول إلى المعنى الحقيقي للإيمان، والتركيز على النية الكائنة خلف الممارسات والأفعال الإنسانية التعبدية، والاجتماعية، فكان للمتصوفة الكبار تأثيرهم المعنوي على وعي العامة من الناس، وهو ما تمثل في أوساط التدين الشعبي، بما يملكه الولاة والأولياء من تعاطف مع الفقراء والمحتاجين والمعوزين في المجتمع، وبما يهبه رموز المتصوفة من أمل لهؤلاء المهمشين، وهو ما جعلهم رموزاً لهؤلاء الشرائح، وقد أثار ذلك حفيظة السلطة السياسية عليهم من ناحية، والسلطة الفقهية من ناحية أخرى التي خشيت من سحب أولياء الصوفية السلطة منهم، والسيطرة على العوام وعلى المجتمع، وصولاً إلى تحريكهم للتمرد على هاتين السلطتين.
نظرة الصوفية إلى الفقهاء
نظر الصوفية إلى الفقهاء على أنّهم أهل ظواهر ورسوم، وإلى أنفسهم على أنّهم أهل الحقائق والبواطن، ويضعون علمهم من حيث هو علم بالحقيقة في مرتبة أعلى من علم الفقهاء من حيث هو علم بأحكام الشريعة الظاهرة، ومهما يكن من أمر هذا كلّه فإننا نلاحظ أنّ طائفة لا يُستهان بها من الصوفية قد جعلت من الطريقة أداة لمعرفة الحقيقة دون أن تكون منافية لأحكام الشريعة، كما أنّ الصوفية كانوا ينظرون إلى أنفسهم على أنّهم وحدهم من يدركون حقيقة الدين خلف المعاني والتكاليف الظاهرة؛ لأنّ أعمال الجوارح، بنظرهم، ليست مقصودة لذاتها؛ بل المعنى الباطني هو الهدف من هذه الأعمال، وهو الركيزة التي تؤسس عليها أعمال الظاهر.
والواقع أنّ الخلاف بين الصوفية والفقهاء بدأ يدبّ نتيجة اعتقاد كل منهما أنّه يملك حقيقة الدين، وكان الفقهاء يخشون من ضعف سلطتهم على العوام بسبب ميلهم إلى أولياء الصوفية، وانتشار آثار التصوف في أشكال مختلفة من التدين الشعبي، لذلك اتهم الفقهاء الصوفية بالابتداع في الدين، واتهم الصوفية الفقهاء بالجمود وضعف الروحانية، وذلك للاختلاف الجوهري بين الطائفتين في المنزع والغاية، ولم يكن بد من أن يثور الصوفية في أوجه الفقهاء الذين أصبح الدين على أيديهم “مجموعة من الرسوم والأشكال والأوضاع التي لا حياة فيها”، ولم يكن بد من أن يثور الفقهاء في وجه الصوفية لأنهم اعتبروا أنفسهم حماة الشرع من الزائد عنه، والشرع، بنظرهم، لم يأتِ إلا بأحكام الظاهر، ولم يضع حدوداً لأحكام الباطن، فلم يضع حداً للنفاق والرياء والشرك الخفي أو عدم الإخلاص، أو ما شاكل ذلك من أعمال القلوب بل ترك أمر ذلك إلى الله تعالى.
توظيف الفتاوى ضد الصوفية
كان الفقهاء يتخوّفون على الإسلام من الصوفية، ويخافون من نفوذهم على الفقراء والعوام في نفس الوقت، وكان من أبرز الشخصيات التي ناهضت التصوف وقاومت الصوفية، أحمد بن حنبل، على الرغم مما يكنّه لبعض الصوفية من احترام وتبجيل كما تشهد بذلك الحكايات التي تروى عنه مع الحارث المحاسبي، ولكن إشفاق ابن حنبل على الإسلام وتخوفه من انتشار نفوذ الصوفية كان أغلب عليه من تقديره لهم، فهو لم ينكر عليهم أقوالهم، ولكنه كان يعترف صراحة أنه لا يفهمهم “لأنّهم يتكلمون بلغة لا عهد له بها”، ثم جاء أتباع ابن حنبل فكانوا أشد مقتاً للصوفية وتنكيلاً بهم، وقد بلغ اضطهادهم لهم أقصاه في محنة الصوفية المعروفة بمحنة غلام الخليل، وهي المحنة التي اتهم فيها نحو سبعين صوفياً من بينهم الجنيد شيخ الطائفة ببغداد، وحوكموا وحكم عليهم بالإعدام ثم أفرج عنهم.
قتل الحلاج والسهروردي
وحين نستقرئ أحداث قتل الحلاج يبرز التاريخ مدى التفاف الفقراء حول الحلاج نتيجة للظلم الموجود في أروقة الحكم، وكانت السلطة السياسية تخشى من وقوع ثورة عليها فما كان منها إلا أنّها سعت إلى قتل الحلاج على يد الوزير حامد بن العباس، ولم يجد أمامه إلا تسويغ قتله من خلال اتهامه في دينه، فقد فطن حامد بن العباس إلى أنّ القناع الديني والتهمة الدينية هي خير وسيلة للتنكيل بالحلاج، فكتب ما رأى أنّه اعتقاد الحلاج للفقهاء في بغداد فأنكروه عليه.
ومن المواقف الخطيرة التي من الممكن استحضارها في هذا السياق أنّ السلطة عندما قررت قتل الرجل استعانت بالعلماء والفقهاء لتشريع ذلك، وبالفعل فقد قام هؤلاء بدورهم على أكمل وجه؛ فصاحوا في مشهد واحد واصفين كلام الحلاج بأنّه كلام أهل الزندقة، وأشاروا على السلطان بقتله، حتى أنّ الشاهد الوحيد الذي شهد على الحلاج بأنه ادعى الألوهية كان من طرف حامد بن العباس، وتطوع محمد بن داود ليقوم بالدور الأكبر فقال: “إن كان ما أنزل الله على نبيه حقاً، وما جاء به حق فما يقوله الحلاج باطل، وكان شديداً عليه، ويعلق ابن كثير قائلاً: “فقتله بسيف الشرع الذي لا يقع إلا بين كتفي زنديق”.
ومن هنا نلاحظ أنّ السلطة السياسية لم تكن لتقتل الحلاج إلا بغطاء شرعي من خلال الفقهاء للشك في دين الرجل؛ لأنّها تعرف جيداً مدى عداء الفقهاء الصريح للمتصوفة، وللحلاج الذي جمع حوله العديد من الفقراء الذين يشعرون بالظلم، والذين يثقون فيه، ويؤمنون بكراماته، وورعه وتقواه.
وكذلك تعرض شهاب الدين السهروردي للقتل في ظروف مشابهة، فقد كان الفقهاء، خصوصاً في القرنين الخامس والسادس الهجريين، يتلمسون لأصحاب النظر العقلي نطاق المروق من المذهب الديني الرسمي فيحكمون بكفرهم، ويطلبون إقامة الحد عليهم، وكان الحكام، وجلّهم من أهل السنّة، بعد ظهور الدولة الفاطمية الشيعية يتخوفون من الحركات الباطنية، ويشتطون في محاربتها، وهالهم انتشار الإسماعيلية كمذهب ديني في الشرق، فأخذوا يضيّقون الخناق على أصحاب الدعاوى الباطنية، ومتفلسفة الصوفية هم أقرب المفكرين التياثاً بتيارات الباطنية، وهكذا نستطيع أن نرسم الإطار الذي وضعت فيه حادثة مقتل السهروردي بالرجوع إلى ظروف مقتل الحلاج من قبله، فقد أفتى فقهاء عصر السهروردي بقتله العام 587، حين أرسلوا للملك صلاح الدين الأيوبي الفتوى بذلك، فأمر ابنه الملك الظاهر بتنفيذ هذا الحكم في رجب من ذلك العام.
وعلى الرغم من أنّ ابن تيمية كان له موقف إيجابي من التصوف السنّي الذي يسير على نهج الكتاب والسنّة، إلا أنّ له موقفاً حاداً من أصحاب نظرية وحدة الوجود ونظريات الاتحاد والحلول، من أمثال الحلاج، وابن سبعين، وابن الفارض، وابن عربي، وقد ركّز ابن تيمية معظم هجومه على ابن عربي ونظرية وحدة الوجود.
ويظل الصراع بين أهل الظاهر وأهل الباطن، بين أهل الشريعة وأهل الحقيقة، بين الفقه والتصوف صراعاً أصيلاً في تاريخ الحضارة الإسلامية، مهما قيل فيه من اختلاف فإنه في الحقيقة صراع على السيطرة على المجال العام الإسلامي بين أصحاب سلطة الفقه الذين سعوا قولاً وفعلاً للسيطرة عليه، وبين المتصوفة الذين سعى إليهم العامة للهداية والتبرك.
نقلاً عن حفريات