جاد الكريم الجباعي
كاتب سوري
قال الشيخ العلامة، عبد الله العلايلي: “ليس التعصب من الدين، بل من الجهل بالدين”؛ أجل، ليس التعصب الذي أشعل هذه الحرائق، في بلادنا، من الدين؛ بل هو من الجهل بالدين؛ نعني من جهل الإسلاميين والعلمانيين بالدين، وجهل ديمقراطيي بلادنا خاصة بالدين وبالعلمانية، ومدى صلة الأخيرة بالديمقراطية وموقفها من الدين، على اعتبارها عاملاً أساسياً من عوامل تشكل المجتمعات المدنية الحديثة والدول الحديثة، والأساس الذي تنهض عليه المواطنة المتساوية. الأساسي في قولة الشيخ العلايلي هو اقتران التعصب بالجهل اقترانَ علة بمعلول.
نتحدث عن جهل عالِم، ونقصد بالجهل المعنى الذي يُفهم من قول الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم: “ألا لا يجهلن أحد علينا .. فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا، إلى قوله: ونشرب إن أردنا الماءَ صفواً .. ويشرب غيرنا كدراً وطينا” (من معلقة عمرو بن كلثوم الشهيرة). وليس لهذا المعنى من مقابل سوى التعصب والغطرسة والتنمر.
فالعلاقة الكدِرة بين عشيرتين عربيتين: بكر وتغلب، هي من نوع العلاقة الكدِرة (والمطيِّنة باللهجة المصرية) بين عشائر الإسلاميين وعشائر القوميين، في أيامنا. لذلك كنا، ولا نزال نعتقد أن تطرف الجماعات الإسلامية، بدءاً من جماعة الإخوان المسلمين، هو المقابل الموضوعي، (لكي لا نقول رد الفعل الموضوعي)، لتطرف القوميين عامة، والبعثيين منهم خاصة. نخص البعثيين؛ لأن “مآثرهم” غدت واضحة في سوريا والعراق، وغيرهما، ونخصهم أيضاً؛ لأن لهم معادلاً ديمقراطياً تقنياً أو صندوقياً (نسبة إلى صندوق الاقتراع)، لا يقل عنهم غطرسة وتنمراً.
للجهل، في مقاربتنا، معنيان: الجهل بالأمر، أو الجهل بالآخر المختلف، وهو شكل من أشكال الجهل بالذات، أو عدم معرفة الذات على حقيقتها الإنسانية، والجهل على الآخر المختلف، والاستعلاء عليه، وإرادة إخضاعه واستتباعه، أو تجاهله، في أحسن الأحوال، واعتباره غير موجود، وغير مرئي، وليس جديراً بـ “الحرية والكرامة” والحقوق. وبين هذين المعنيين صلات، كالجهل بالغرب وثقافته وقيمه، والجهل على الغرب (المستعمر والإمبريالي، الكافر والمادي والمنحل أخلاقياً) والاستعلاء عليه بـ “حضارتنا وقيمنا ومجدنا التليد”، وكذلك الجهل بالآخر المختلف والجهل عليه. ونعتقد أن ثمة علاقة بين الجهل بالدين والجهل بالعلمانية، وعلاقة مشابهة بين الجهل على الدين والجهل على العلمانية.
فقد ظهرت، منذ ثمانينيات القرن الماضي، في سياق “الصحوة الإسلامية”، عشيرة جديدة، هي عشيرة “الديمقراطيين التقنيين” المناهضين للعلمانية، وهذه عشيرة تجهل على كل مختلف أو مخالف؛ من أبرز شيوخها محمد عابد الجابري ومريديه، في المغرب، وبرهان غليون ومريديه في المشرق. ومن المؤكد أن ثمة بوناً شاسعاً بين الشيوخ والمريدين، ولكن مزية المريدين أنهم يفضحون أسرار الشيوخ، بحكم حداثتهم في السن، وحداثتهم في الكار، نعني كار التلبيس والتدليس (إذا أردت أن تعرف أسرارهم اسأل صغارهم). هؤلاء ينتقدون السلفية، وينتقدون الأصولية، ومنفتحون على ما هو “مفيد” و”مناسب” في الثقافة الإنسانية، ولا يرون مخرجاً من أزمة “الأمة” إلا بـ “الإصلاح الديني”، أو بالثورة الإسلامية. وقد صفقوا أو صفق بعضهم على الأقل لكتاب عبد الله العروي، “السنة والإصلاح”، من دون أن يلتقطوا رسالته؛ إذ الكتاب دعوة صريحة إلى استقلال الوجدان وحرية الضمير (“الأوْبة إلى الذات”)، وتجاوز السنة، أو الأرثوذكسية، (أي الجماعة العقائدية المغلقة والمنكفئة على ذاتها وحقائقها اليقينية)، إلى ما سماه بعضهم “ما فوق السنة” أو “ما بعد السنة”.
العصب الأيديولوجي الذي يعصِّب هذه العشيرة هو فكرة “الأمة”، التي لا هي “الأمة الإسلامية”، كما لدى الإسلاميين، ولا هي “الأمة العربية”، كما لدى البعثيين؛ فلعلها أمة المسلمين السنة من العرب؛ كما تشي بذلك كلمة “الأمة” في كتابات الجابري وغليون. ومن ثم فإن نهضة الأمة مرهونة بالإصلاح الديني واستعادة نقدية ابن حزم وعقلانية ابن رشد وأصولية الشاطبي وتاريخية ابن خلدون، على نحو ما أشار الجابري، (محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، ط 9، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2009، ص 552.).
في حين لم ير غليون من سبيل إلى نهضة الأمة إلا ثورة إسلامية على غرار الثورة الإيرانية؛ “فالإسلام الذي عمد نفسه في أعظم ثورة شهدها النصف الثاني من القرن العشرين، مطالب اليوم أن يحقق الحلم الذي عجرت عن تحقيقه الأيديولوجيات الماضية، القومية والماركسية” (برهان غليون، الوعي الذاتي، ط 2، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1992، ص 79.).
العلمانية لدى ديمقراطيين؛ كالجابري وغليون وأتباعهما، بدعة غربية، لكن الديمقراطية ابتكار عربي إسلامي، مؤسس على “الشورى”، ومطعَّم بصندوق الاقتراع: ديمقراطية تقنية، تفضي بالضرورة إلى حكم “الأكثرية”، التي هي الأمة بالتمام والكمال، فتحقق “تماهي الأمة بذاتها وتماهي الأمة والدولة”.
لسنا ضد الإصلاح الديني بالتأكيد، ولكن الإصلاح الديني لا يكون إلا من داخل المنظومة الدينية المعنية أولاً وأساساً. ثانياً، إنّ جميع تجارب الإصلاح الديني المعروفة في التاريخ انتهت بتشكُّل سنن جديدة (جمع سنة)، أو أرثوذكسيات جديدة، كالملل والنحل والمعروفة في التاريخ الإسلامي أو البروتستنتية والكالفنية والإنغليكانية وغيرها في التاريخ المسيحي، وملل ونحل مشابهة في التاريخ اليهودي.
وكما انتهت محاولة الإصلاح التي قام بها محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية إلى تشكل الوهابية، وانتهت محاولة محمد عبده، مع رشيد رضا وحسن البنا، إلى تشكل جماعات إسلامية كل منها سُنَّة قائمة بذاتها، وملة هي وحدها الملة الناجية، كملة الإخوان المسلمين، وغيرها. أما الثورة الإسلامية، كما يريدها برهان غليون، فممكنة دوماً، ولكن، نخشى أن مصيرها قد لا يختلف عن مصير الثورة الإيرانية. تنبع خشيتنا من واقع جهل السوريين على السوريين، وجهل سوريين على بقية السوريين، منذ تأسلمت الثورة السورية وتعسكرت، وجهل الناطقين باسم “الأمة”، أو باسم “الأكثرية”، ولا فرق، على الأقليات، باعتبارها “كسور الأمة”، بتعبير ياسين الحافظ، وقد فهمها بعضهم بأنها كسور عشرية، لا ترقى كلها إلى العدد الصحيح، الذي هو الأمة الواحدة.
لقد كان الجابري واضحاً أشد ما يكون الوضوح في جهله على غير المسلمين السنة من العرب بقوله: “التراث العربي الإسلامي يغلفنا تغليفاً قوياً، وإذا ادعى أحد منا أنه مستغن عن هذا الغلاف متحرر منه فليعترف أنه مسكون بهوية أخرى غير الهوية العربية الإسلامية .. ” (محمد عابد الجابري، العقل الأخلاقي العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2001، ص 28). ما قاله الجابري صراحة يقوله الديمقراطيون التقنيون مداورة وتدليساً.
نقلاً عن حفريات