طارق أبو السعد
كاتب مصري
سعى حسن البنا منذ بداية تأسيس جماعته إلى تغيير المفاهيم البديهية لدى المجتمع، عبر تكوين منظومة معرفية بديلة، لم يقدّم نسقه الفكري مرة واحدة، ولا جمع أفكاره في مرحلة واحدة، إنّما كانت منظومته الفكرية تتطور مع كلّ طور من حياته، وأثناء مسيرة حركته التنظيمية، لكنّه كان حريصاً على تدفق سيل من المفاهيم التنظيمية المغلوطة وتسريبها لأتباعه وللمجتمع، لتعمل هذه المنظومة في الغالب على خلق بيئة قابلة لخطاب الإسلاميين في المجتمع، واعتبارهم حراساً للعقيدة يحتلون مكانة فريدة في المجتمع.
عندما بدأ البنا مبكراً في تكوين منظوره، لم يقدمه كرأي لمفكر أو مصلح، بل قدمه لأتباعه على أنّه حقائق دينية لا تقبل النقاش، يقوم منظور حسن البنا بمفاهيم تصنع رؤية ذاتية، يرى الإخوان بها أنفسهم، ومفاهيم يحكمون بها على غيرهم.
جعل البنا، وقادة الإخوان من بعده، هذا المنظور إحدى أدواتهم في السيطرة على أعضاء الجماعة، وسعوا لنشره بين الناس ليستكملوا سيطرتهم على المجتمع، ويمكننا القول إنّ حسن البنا نجح إلى حدّ كبير في السيطرة على أعضاء التنظيم، ونجح جزئياً في نشره بالمجتمع، وسعت الجماعة من بعده لاستكمال تلك المهمة، فلاحقاً تمكّن الإسلامويون من فرض سلّمهم القيمي الذي يحددون به نمط السلوك المقبول من المرفوض على المجتمع في عقدَي الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين.
دون الوقوف على تفاصيل هذا المنظور، سيكون من العسير فهم لماذا يجنح الإخوان للعنف دائماً، رغم ادّعائهم أنّهم سلميون، ولماذا يتطرفون أثناء ادّعائهم أنّهم وسطيون؟ ولماذا يرفضون أيّ نقد لسياساتهم، أو أيّ اعتراض على مشروعهم السياسي؟ بل سيظلّ المتابع عاجزاً عن تفسير تماديهم في اتهام معارضيهم بأنّهم معادون للإسلام ذاته؟
يمكننا القول إنّ منظور حسن البنا، الذي ظلّ الإخوان يتوارثونه ويعلمونه لأتباعهم في كلّ الأوقات، جعل الفرد الإخواني يرى ذاته وجماعته أنّهم ممثلون للإسلام، أو هم الإسلام ذاته، ويحكمون على أفراد مجتمعاتهم بأنّهم إما مجتمع جاهلي، أو في أحسن الأحوال بعيدون عن الإسلام.
فكيف صنع حسن البنا منظوره كي يرى به نفسه وجماعته أو للحكم على الناس؟
بدأ حسن البنا أولاً بتحديد رؤيته لدوره ولجماعته، وفرض هذه الرؤية على أتباعه، كما خاطب الناس وفق هذه الرؤية، فكيف رأى حسن البنا نفسه وجماعته؟
رأى حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين أنّها جماعة المسلمين الحقيقيين، وإن أعلنوا غير ذلك، وبدأ مبكراً في ادّعاء الفرق بين جماعته وعموم المسلمين، بقوله في رسالة “دعوتنا”: “إيمان الأمة مخدر نائم، على حين أنّه إيمان ملتهب مشتعل قوي يقظ في نفوس الإخوان المسلمين”(1).
ثم يستكمل تصوره عن نفسه وجماعته بقوله في رسالة “دعوة للشباب”: “الإخوان يعلمون أنّ خير وصف لخير جماعة هو وصف أصحاب رسول الله، صلى الله عليه و سلم: “رهبان في الليل فرسان في النهار”(2)، ليقوم بسحب هذا الوصف على جماعته، وكأنّما يستدعي الصورة المقدسة لجيل الصحابة ليصف بها أتباعه، ومن ثم تكون ساتراً دينياً يحميهم من الاتّهام أو الاعتراض عليهم، وعلى وجه الخصوص، أنّه اعتبر أنّ جماعته ودعوته هي دعوة الإسلام ذاته في القرن الرابع عشر الهجري، فنجده يقول في الرسالة ذاتها: “ومن هنا كان من واجبي أن أشرح لكم في وضوح موجز(دعوة الإسلام في القرن الهجري الرابع عشر)”.
ثم ارتفع تصوره عن جماعته، بقوله في رسالة “دعوتنا” في طور جديد: “نحن، ولا فخر، أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحملة رايته من بعده، ورافعو لواءه كما رفعوه، وحافظوا قرآنه كما حفظوه، هذه منزلتكم فلا تصغروا في أنفسكم فتقيسوا أنفسكم بغيركم، لقد دعوتم وجاهدتم، فواصلوا جهودكم واعملوا، والله معكم، فمن تبعنا الآن فقد فاز بالسبق، ومن تقاعد عنا من المخلصين اليوم فسيلحق بنا غداً، وللسابق عليه الفضل”(3).
ثم لا يكتفي حسن البنا بهذا، بل يصل إلى غايته في رسالة “إلى أيّ شيء ندعو الناس”؛ إذ يقول: “يا قومنا: إننا نناديكم والقرآن في يميننا والسنّة في شمالنا، وعمل السلف الصالحين من أبناء هذه الأمة قدوتنا، وندعوكم إلى الإسلام وتعاليم الإسلام وأحكام الإسلام”؛ بهذه الكلمات الثقيلة والجريئة للغاية، يصل البنا إلى ما يريد أن يغرسه في نفوس أتباعه، بالتالي في المجتمع، وهو أنّهم قاموا ليدعوا المسلمين إلى الإسلام من جديد! فهل كان في قرارة نفسه يرى مسلمي عصره غير مسلمين؟ بالتالي هو يرى أنّ أتباعه هم المسلمون حقاً.
رسّخ الإخوان هذا المنظور في قلوب وعقول أتباعهم عبر ترديد أقوال حسن البنا، باعتبارها بديهيات ومأثورات، لا تقبل النقد أو النقض، كرروها حتى آمن بها أتباعهم من خلال ما يسميه الإخوان “وسائل التربية”، والتي تشمل (الأسر التربوية –الكتائب- الرحلات– المحاضرات)، كتبوا شروحات متعددة لكلّ رسائل البنا، يشرحون ويفسرون ويكررون أقوال البنا، دون الإشارة إليه ليسهل تبني المجتمع لها.
لعقود متتالية يحاول الإخوان تسريب تلك المفاهيم إلى المجتمع، فالإخوان يرون أنفسهم ربانيين، فجعلوا المجتمع المصري يقول عنهم “الإخوان بتوع ربنا”، في حين أنّ أبرز ما يمارسه الإخوان هو السياسة، وأصل الخلاف مع الأنظمة ليس الدين بل السياسة، كما نجحوا أيضاً في جعل الفرد المصري يعتقد أنّ إيمانه أقلّ من إيمانهم، فنظر كثيرون من عوام الشعب، وبعض من وجهائه، إلى الإخوان بإجلال مبالغ فيه، استغلّ الإخوان انشغال مؤسسات الدولة في مواجهتهم أمنياً وتنظيمياً، وأنّ لا أحد قد اقترب من أفكارهم أو من أفكار وأقوال حسن البنا، فقدموه على أنّه صاحب الدعوة الرشيد، وأشاعوا على ألسنة البعض أنّ ليت الإخوان يعودون إلى أقوال حسن البنا ولمرحلة الدعوة إلى الله فقط، متجاهلين أنّ أصل الداء في أفكار حسن البنا نفسها!
خطورة هذه الأفكار على الفرد وعلى المجتمع
خطورة هذه المنظومة أنّها تجذّر الفرقة والتعصب ومن ثم الاحتراب الداخلي، هذا المنظور هو أول لبنة في بنيان الإرهاب؛ حيث يتمّ تضخيم الذات الإخوانية المنتمية للجماعة، وفي المقابل تهوين الذات المنفصلة عن الإخوان، ثم تحميل الجماعة والتنظيم حمولة فكرية مقدسة.
وحامل هذا الفكر تكون لديه القابلية للهجوم على مجتمعه إذا شعر أنّه لا يقبل فكره أو جماعته، أو أنّ أيّاً من أفراد التنظيم وقع له مكروه من قبل مؤسسات الدولة، مشكلة المجتمع مع هذا المنظور أنّه خفي يصعب اكتشافه من بين ثنايا كلام حسن البنا، ومن ثمّ أصبح قادراً على النموّ والتمدّد داخل المجتمع، فصار كلّ إسلامي يرى أنّ الآخر ليس له حظّ من الإسلام.
ومن الواجب على المجتمعات العربية تفكيك مثل هكذا منظور احتكاري، فلا تسمح لأحد أن يتحدث نيابة عن الإسلام، ولا تسمح لجهة أن تزعم امتلاكها للفهم الصحيح للإسلام، فلا أحد يملك الإسلام، ولا يجب أن يزعم أحد أنّه، هو أو جماعته، يملكون الفهم الصحيح والشامل للإسلام، ولا هم ورثة الرسول ولا إيمانهم يقظ، وإنّ غيرهم إيمانه نائم، ولا سلوكهم، أو زيّهم، أو منهجهم، هو المنهج الرباني، أو هو مراد الله.
نقلاً عن حفريات