عمر الرداد
كاتب أردني
لم يعد القول إنّ الصورة “فوتوغرافية أو متحركة” أصبحت أداة من أدوات التواصل والإبلاغ والإخبار في الحروب يتضمّن جديداً، ذلك أنّ الصورة كانت أداة إلى جانب اللغة المنطوقة قبل تفجر ثورة الإنترنت بتقنياتها ووسائطها المتعددة، فصورة الفتاة الفيتنامية المحروقة العارية بفعل القنابل الأمريكية الحارقة قلبت الرأي العام الأمريكي ضد الحرب، وأسهمت في وقفها، غير أنّ حرب الخليج الثانية عام 2003 كانت إعلاناً بأنّ إعلام الصورة دخل الحروب على شكل “كتائب إعلامية مقاتلة”، تستخدم الصورة بكل تأثيراتها البصرية وتمثلاتها التصورية والذهنية، وبصورة تتفوق على خطاب الكلمات، بفضل التطورات التكنولوجية، وإنتاج الصور التي تنقل عبر البث المباشر، فكانت صورة “دبابة أمريكية” على أحد جسور بغداد إعلاناً بإتمام عملية احتلال العراق، بصرف النظر عن حقيقة ذلك من عدمه.
في معركة “طوفان الأقصى” لم تشذ الحرب عن قواعد صناعة الصورة واستخدامها وإدارتها باحترافية أكبر، بعد استمرار التطورات التكنولوجية خلال الـ (20) عاماً الماضية، وباستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي والأبعاد الثلاثية وما يُعرف بالفوتوشوب، بالتدخل في إجراء تعديلات على الصورة، وخلافاً لحرب فيتنام بين أمريكا والثوار الفيتناميين، حيث كانت الصورة سبباً في وضع حد للحرب، فإنّ الصورة في “طوفان الأقصى” كانت أحد الأسباب المرجعية المؤسسة لانطلاق الحرب الدائرة ضد حماس في غزة، وبصورة أسست لتكييف هذه الحرب، بما يتوافق ويحقق انسجاماً بين الأفكار والصور الذهنية السابقة عبر استدعاء التاريخ وإسقاطه على الواقع.
في الساعات الـ (5) الأولى لانطلاق “طوفان الأقصى، ووصول المقاتلين الفلسطينيين إلى مستوطنات ما يُعرف بـ “غلاف غزة”، وبعمق يزيد على (40) كم، كان الإعلام الحربي العسكري التابع لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، المصدر الوحيد لصور العمليات، بما فيها من اقتحامات وهبوط مقاتلين بطائرات شراعية وقتل إسرائيليين “عسكريين ومدنيين”، والسيطرة على دبابات إسرائيلية، وعمليات نقل “رهائن وأسرى ومحتجزين” عبر مركبات ودراجات نارية إلى داخل قطاع غزة، وتم توثيق كل ما يجري على الأرض في تلك المستوطنات، ونقلته فضائيات عربية وأجنبية.
الصور الأولى، وبمعزل عن كونها تشكل من وجهة نظر جمهور المقاومة في الداخل الفلسطيني وعلى مساحات العالم العربي والإسلامي انتصاراً للمقاومة، وكسر صورة الجيش الإسرائيلي الأسطوري الذي لا يُقهر، وكشف ضعفه وهشاشته، إلّا أنّ الصور نفسها سرعان ما تلقفتها أوساط في الإعلام الإسرائيلي والغربي، وسوّقها السياسيون بكثافة وتركيز عاليين، بوصفها تبرر شنّ حرب إبادة ليس ضد حركتي حماس والجهاد الإسلامي، فقط بل ضد كل سكان قطاع غزة وأهالي الضفة الغربية، ففي حوالي (4) مرات تحدث فيها الرئيس الأمريكي بايدن مع رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو، تم التأكيد على صور مرجعية لدى الرأي العام الغربي، وأبرزها أنّ ما قامت به حماس، “وبدلالة الصورة الصادرة من حماس”، تتطابق مع الصورة المخزنة لدى الرأي العام تجاه تنظيم (داعش)، ورغم أنّ صور حماس تضمّن بعضها التمثيل بالجثث وخطف “عجائز”، إلا أنّه تم تضخيم تلك الصور بإضافة عبارات الاغتصاب وقطع رؤوس الأطفال… إلخ، وهي صورة تحاول الربط بين (حماس) و(داعش)، لا سيّما بعد تأكيد الناطق الرسمي باسم حماس، “في سقطة إعلامية”، استخدام الرهائن دروعاً بشرية.
وربما كان الأخطر الربط بين تلك الصور الأولى لاقتحامات مستوطنات الغلاف مع صور مستفزة لدى الغرب، وخاصة في ألمانيا، بربطها بصور المحارق اليهودية “الهلوكوست”، وهي مفردة ما زال يكررها المستوى السياسي والعسكري في إسرائيل وأمريكا وأوروبا، ويرجح أنّها كانت باعثاً أساسياً لدى الأوروبيين والأمريكيين لإعلان وقوفهم الحاسم إلى جانب إسرائيل ودعمها سياسياً وعسكرياً، وربما كان لافتاً أن يعلن وزير الخارجية الأمريكية خلال لقائه مع نتنياهو أنّه متواجد إلى جانب إسرائيل بوصفه “يهوديّاً”، وهي مقاربة تتمم ما قاله الرئيس الأمريكي إنّ حماس تستهدف “اليهود”، وهو ما يعني البناء على “فظاعة” الصورة، لتأكيد قومية الحرب ويبرر أيّ عنف للردّ عليها.
لا شك أنّ هناك صوراً أكثر فظاعة للضربات الإسرائيلية، ليس في هذه الحرب فحسب؛ بل في كل الحروب السابقة أيضاً، بما فيها قتل الأطفال والشيوخ والنساء، وضرب المستشفيات والمدارس، إلّا أنّ المؤكد اليوم أنّ القيادات الغربية لا تحفل بهذه الصور إلّا بحدود تصدير خطابات إعلامية ناعمة تتضمن دعوات لتجنب قتل المدنيين والعقوبات الجماعية.
حماس من جانبها، وفيما يبدو، تنبهت لخطورة الصورة، وحاولت تدارك الموقف عبر بث صور وفيديوهات جديدة تؤكد تعاملها بـ “أخلاقيات الحرب” بعدم التعدي على نساء وأطفال، لكنّ الصور الأولى كانت قد انتشرت وأسست مواقف “عند الرأي العام الغربي على الأقل”، أرسلت رسالة أخطر من الانتصار نفسه، مضمونها أنّ حماس “جماعة إرهابية”، وليست حركة صاحبة قضية وطنية تقاوم الاحتلال وتطالب بالحرية والاستقلال، وبالتزامن تم إعدام روايات إسرائيليين لكيفية دخول المقاتلين الفلسطينيين إلى منازلهم وطلبات بعضهم ماءً للشرب أو الطعام، وتأمين إبعاد النساء والأطفال عن ساحة المعركة.
نقلاً عن حفريات