أحمد سالم
كاتب مصري
انتقلت كتب الفلسفة اليونانية إلى ثقافتنا، على يد المأمون (ت 218هـ)؛ الذي رغب في ترجمة تراث اليونان إلى العربية، ورغم تضارب الروايات في هذا الشأن، يظلّ للمأمون اليد الطولى في هذا المضمار، وكان هو الخليفة الذي أرسى دعائم الانفتاح على ثقافات الآخر، وهو من أحيا هؤلاء الأموات من جديد، وكان لنقل الفلسفة والمنطق دورهما البارز في تطور فنون الجدل، خاصة عند المعتزلة، لكن منذ أن انتقلت الفلسفة اليونانية إلى ثقافتنا، كان هناك تيار رئيس من الرفض والنقد، والتحذير من أثر هذه الفلسفة في الدين.
ومن أوائل من حذّر من الفلسفة؛ الإمام الشافعي (ت204هـ)، الذي نقل عنه قوله: “ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطو”، وأشار الشافعي بذلك إلى ما حدث في زمن المأمون من القول بخلق القرآن، ونفي الرؤية، وغير ذلك من البدع، وأنّ سببها الجهل بالعربية والبلاغة الموضوعة فيها من المعاني والبيان، والبديع الجامع لجميع ذلك في لسان العرب، الجارية عليه نصوص القرآن الكريم والسنّة النبوية، وتخريج ما ورد فيها على لسان اليونان ومنطق أرسطوطاليس، الذي هو في حيّز، ولسان العرب في حيّز آخر، ولم ينزل القرآن الكريم، ولم تأت السنّة النبوية إلا على مصطلح العرب ومذاهبهم، لا على مصطلح اليونان.
وإذا كانت الفلسفة قد انتقلت إلى العالم الإسلامي في فترة اتسمت بالتسامح، والانفتاح على ثقافة الآخرين؛ فإنّه في فترات التشدّد، كانت هناك خشية من العمل بالفلسفة، ومن تعلمها، فكلّما ازدادت شوكة المتشددين، كان هناك عدم ثقة لدى البيئات الدينية في شرق الإسلام إزاء الاشتغال بعلوم الأوائل أشدّ وأعنف، وأقدم مثال على ذلك؛ ما شعر به الفيلسوف الكندي من قلق وخوف، بعد عودة سلطان أهل السنّة في عهد المتوكل.
الغزالي يوجه سهام النقد للفلسفة
ورغم هجوم الفقهاء ورجال الدين على الفلسفة؛ فإنّ أهم ضربة وجهت لها؛ هي ما وجهه الغزالي (ت505 هـ) إليها، لأنّها جاءت من قبل عالم مَارس الفلسفة، وخبر أرضها إلا أنه حين مرّ بأزمة روحية عميقة، تكافأت فيها الأدلة لديه، تحوّل إثرها إلى التصوف، ووجه ضربات قاصمة إلى الفلسفة، وسمعتها في العالم الإسلامي؛ حيث أصبحت كتب الغزالي في هذا الشأن هي المرجع لكلّ من يريد أن يهاجم الفلسفة، وأصبح موقفه منها هو نقطة مفصلية في تاريخ الفلسفة الإسلامية، ورأى الغزالي أنّ مصدر كفر الفلاسفة المسلمين سماعهم للفلاسفة اليونانيين، أمثال: سقراط وأفلاطون وأرسطو، واتّباعهم لكلامهم، رغم مخالفته للشريعة الإسلامية، وذلك من منطلق إيمان هؤلاء الفلاسفة بأن هؤلاء هم الفضلاء، وكان غرض الغزالي من مهاجمة الفلسفة والفلاسفة؛ تشويه صورتها، وتنبيهاً من حسن اعتقاده بالفلسفة والفلاسفة بضرورة الابتعاد عنه فيقول: “ليعلم أنّ المقصود تنبيه من حسن اعتقاده في الفلاسفة، وظنّ أن مسالكهم نقية خالية عن التناقض، ببيان وجوه تهافتهم؛ فلذلك أنا لا أدخل في الاعتراض عليهم إلا دخول مطالب منكر، لا دخول مدّعٍ مثبت فأبطل عليهم ما اعتقدوه”.
ورغم توظيف الغزالي للعقل في الردّ على الفلاسفة؛ فقد وظّف أيضاً سلطة الفقه في إقامة حكم التكفير عليهم؛ حيث أبان في مقدمة “التهافت” تناقض الفلاسفة في عشرين مسألة، لكنّه ختم الكتابة بالقول: “إن قال قائل: قد فصلتم مذاهب هؤلاء أفتقطعون القول بتكفيرهم، ووجوب القتل لمن يعتقد اعتقادهم؟ قلنا: تكفيرهم لا بدّ منه في ثلاث مسائل، إحداها: مسألة قدم العالم، وقولهم إنّ الجواهر كلّها قديمة، والثانية: قولهم إنّ الله لا يحيط علماً بالجزئيات الحادثة من الأشخاص، والثالثة: إنكارهم بعث الأجساد وحشرها، فهذه المسائل لا تلائم الإسلام بوجه، ومعتقدها يعتقد كذب الأنبياء، صلوات الله عليهم وسلامه، وأنّهم ذكروا ما ذكروه على سبيل المصلحة، تمثيلاً لجماهير الخلق وتفهيماً لهم، وهذا هو الكفر الصريح، الذي لم يعتقده أحد من المسلمين”.
وجعلت تلك الضربة القاصمة للغزالي، الفلسفة سيئة السمعة في عالمنا الإسلامي منذ تاريخه، ورغم الجهود التي بذلها البعض فيما بعد للحديث عن مشروعية الفلسفة، مثل ابن رشد وغيره، فإنّ هذه المحاولات، رغم أهميتها البالغة، إلا أنّها لم تستطع أن تمحو ما فعله الغزالي بوضعية الفلسفة داخل الحقل الثقافي الإسلامي.
المنطق يتأثر بمحنة الفلسفة
في مطلع القرن السابع؛ كانت الفتوى المشهورة لابن الصلاح الشهرزوري (ت 643هـ)، الذي كان تلميذاً لكمال الدين بن يونس الموصلي، ولم يستسغ علم المنطق، ولا استطاع هذا العلم أن ينفذ إلى عقله، فلم يسع كمال الدين بن يونس إلا أن يقول له: “يا فقيه، المصلحة عندي أن تترك هذا الفنّ؛ لأنّ الناس يعتقدون فيك خيراً، وهم ينسبون كلّ من اشتغل بهذا الفن إلى فساد الاعتقاد، فكأنك تفسد رأيهم فيك، ولا يحصل لك من هذا الفنّ شيء”، فقبل الشهرزوري نصيحة الأستاذ، وترك الاشتغال بالمنطق، غير أنه لم يكتف بترك الاشتغال بهذا العلم حتى صار خصماً لدوداً له باسم الدين، وأفتى الشهرزوري بتحريم المنطق على المسلمين.
وحين سُئل ابن الصلاح عن مدى مشروعية الاشتغال بالفلسفة والمنطق من الناحية الفقهية، كانت إجابته قاطعة: إنّ “الفلسفة رأس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة، ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المؤيدة بالحجج الظاهرة، والبراهين الباهرة، ومن تلبس بها تعليماً وتعلماً قارنه الخذلان والحرمان، واستحوذ عليه الشيطان، وأيّ فنّ أخزى من فنّ يعمي عن نبوّة محمد، وأما المنطق؛ فهو مدخل الفلسفة، ومدخل الشرّ شرّ، وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشارع، ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والسلف الصالحين، وسائر من يُقتدى به من أعلام الأمة وسادتها”، وهنا نلاحظ أنّ الشهرزوري يجمّل في كلامه هذا موقف جلّ أعلام السلف والفقهاء في الأمة الإسلامية، بما يؤكد أنّ هذا كان تياراً عاماً في الحضارة الإسلامية إزاء الفلسفة .
وحين سئل ابن الصلاح عن مدى شرعية الاشتغال بكتب ابن سينا، ومطالعة كتبه، وهل يجوز أن يعتقدوا بأنه كان من العلماء أم لا؟ أجاب: لا يجوز لهم ذلك، ومن فعل ذلك فقد غرّر بدينه، وتعرض للفتنة العظمى، ولم يكن من العلماء، بل كان شيطاناً من شياطين الإنس، وهكذا بدت الفلسفة من وجهة نظر بعض الفقهاء من عمل الشياطين الذين يفسدون على الناس دينهم، والواقع أنّ فتوى ابن الصلاح ليست إلا تعبيراً عن الرأي السائد في البيئات السنّية، في مناطق واسعة من العالم الإسلامي في ذلك العصر.
وممّا سبق نلاحظ؛ أنّ ازدهار الفلسفة في الحضارة العربية الإسلامية، كان سائداً في فترات التسامح الديني، وفي مناصرة السلطة السياسية لها؛ فالفلسفة لا تنبت إلا في أرض التسامح، لكن حينما يتحوّل التسامح إلى تعصّب ورغبة في الإقصاء، تتعثر الفلسفة كثيراً؛ فهي لا تنتمي لأيّة أرض يسودها التعصب الديني، والاضطهاد السياسي.
نقلاً عن حفريات