أشرف منصور
كاتب مصري
أثناء الأشهر الأولى من الثورة الإيرانية، ذهب الفيلسوف الفرنسي، ميشيل فوكو، إلى طهران في زيارتين؛ الأولى في 16 أيلول (سبتمبر) 1978، والثانية في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 1978، مدفوعاً بزخم الأحداث هناك ومتحمساً لثورة اعتقد أنّها حدث جديد، يخرج عن منطق التاريخ الأوروبي ويتجاوز نمط الحداثة الغربي، وينفتح على إمكانات وخبرات جديدة خارج المركزية الأوروبية، وما بين الزيارتين؛ قام فوكو بزيارة آية الله الخميني، الذي كان يسكن في بلدة نوفل لو شاتو (Neauphle-le-Château)، بالقرب من باريس، أوائل تشرين الأول (أكتوبر) من العام نفسه.
كان فوكو يرغب في التعرّف إلى تلك الثورة عن قرب ومن الداخل، تلك الثورة التي أبهرته وتحمّس لها جداً، وكان عاقداً لآمال كبيرة حولها.
قابل فوكو خلال الزيارتين شخصيات إيرانية سياسية كثيرة، من التيارات اليسارية والليبرالية والإسلامية، وكان فوكو من أهم نقاد تراث الحداثة والتنوير الغربي، وما جذبه في الثورة الإيرانية؛ أنّها، في نظره، تتجاوز منطق الحداثة والتنوير، وبذلك شعر معها أنّها تأكيد لمواقفه الفكرية التي كان يتبنّاها منذ بداية مشواره العلمي.
وأسفرت هاتان الزيارتان عن كتابة فوكو لعدد من المقالات، وإجراء عدد من الحوارات، يكشف فيها تقييمه للثورة وتوقعاته بمستقبلها، ولما كان متحمساً لها، فقد كان تقييمه إيجابياً جداً؛ فهي، في نظره، ثورة على الطغيان والأوتوقراطية، وهي حدث نادر في القرن العشرين؛ نظراً إلى ندرة الثورات الشعبية الكبيرة فيه، كما أنّها فتحت الباب لرؤية غير أوروبية للحداثة، تسعى للتحرر بطرق أخرى جديدة غير الطرق الأوروبية المعتادة، وتنتفض ضدّ نموذج الحداثة المفروضة من أعلى، والذي أدخله الشاه إلى إيران مكرراً تجارب غربية كثيرة.
وقد كان فوكو واهماً حالماً يوطوبياً في كل تقييمه ورؤاه حول إيران والثورة الإيرانية، غير واعٍ ولا منتبهٍ لحقيقة نمط السلطة الذي كان يتشكل هناك تحت سمعه وبصره، وفوق كلّ ذلك؛ كان مخطئاً تماماً، فقد كان مصاباً بالانبهار الثقافوي الفرنسي المعتاد بكل ثورة، وربما ذكرته بالثورة الفرنسية، واعتقد أنّها مثل ثورات 1968، وربما كان موقفه من الثورة الإيرانية حنينياً خيالياً (نوستالجيا) لثورة بلده الكبرى.
تعرّض فوكو لنقد حادّ من الكثير من المثقفين والصحفيين وقتها، وكان من بينهم؛ المستشرق الفرنسي، ماكسيم رودنسون، الذي ردّ على فوكو في عدد من المقالات، أثناء الثورة وبعدها مباشرة.
انخرط فوكو في دعم الثورة الإيرانية والدفاع عنها بحماس، من أيلول (سبتمبر) 1978 إلى أيار (مايو) 1979، وبعد هذا التاريخ لم يذكر فوكو الثورة الإيرانية أبداً؛ إذ عاش خمسة أعوام أخرى، وتوفّي في 1984، وكان نشيطاً للغاية، وكتب كثيراً، وحاور كثيرين، لكنّه التزم الصمت التام إزاء إيران، ربما لعلمه بخطأ موقفه الأول منها.
لقد دافع فوكو عن الثورة الإيرانية دفاعاً مريراً في بدايتها، كما دافع عن نفسه شخصياً ضدّ الهجوم عليه بسبب موقفه المؤيد لها، لكنه لم يدافع عنها بعد ذلك خلال الأعوام المتبقية من حياته.
وقد يدافع البعض عن موقف فوكو من الثورة الإيرانية، على أساس أنّه قد تعرّف إليها في أشهرها الأولى، عندما كانت تشهد تحالفاً واسعاً بين الإسلاميين واليساريين والليبراليين من أجل إسقاط الشاه، وأنّ فوكو انبهر بتلك الموجة الثورية الحماسية، ولم يكن يتوقع ما ستتحول إليه الثورة الإيرانية بعد ذلك، من حكم ديني أوتوقراطي، بقيادة الخميني، يضاهي، بل يتفوق، على أوتوقراطية الشاه، وأنّ ما أصاب فوكو من حماس للثورة في بدايتها هو ما أصاب اليسار الإيراني الذي تحالف مع الإسلاميين، دون وعي، أو توقّع لمآلات الثورة بعد ذلك.
كما يمكن الدفاع عن موقف فوكو بأنّه انطباع أول، سرعان ما ثبت لديه خطؤه بعد أيار (مايو) 1979، لكنّني أعتقد أنّ كلّ هذا الدفاع ضعيف، من جهات كثيرة، أولها: أنّ فوكو كان حاضراً بنفسه في الحدث، وكان على صلة مباشرة بالشخصيات السياسية المهمّة، التي شاركت في صنعه، وبالتالي فلم يكن بعيداً، ولم يكن حماسه انطباعاً أول، كما أنّ نجم الخميني كان ساطعاً في هذه الأثناء، وقدم له معظم اليسار الإيراني كلّ الدعم والتأييد ليكون قائداً للثورة، منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 1978، وهو الشهر الذي شهد الزيارة الثانية لفوكو، وكلّ الأحداث آنذاك كانت تشير إلى أنّ الخميني هو الذي سيتولى السلطة في النظام الجديد، وأنّ الجناح الإسلامي من الثورة كان هو السائد والغالب، وكان هو الذي يحرك الجماهير، وأنّ نمط السلطة الجديد سيكون إسلامياً، وهذا هو ما كشف عنه ماكسيم رودنسون في نقده لفوكو أثناء الثورة؛ هذا إضافة إلى أنّ تقييم فوكو للخميني كان خاطئاً تماماً، فلم يكن على دراية بخطورة الدور الذي لعبه في الثورة، ولم يكن يعرف أهمية الإسلام السياسي، ولم يكن يعي بخطورة نظرية ولاية الفقيه التي كانت المبرر الفقهي- الأيديولوجي لتولي الخميني للسلطة.
ورغم نقد فوكو لمشروع الحداثة والتنوير الغربي في كلّ أعماله، إلا أنّه كرّر في موقفه الحماسي من الثورة الإيرانية اعتقاداً حداثياً تنويرياً غربياً، يعطي الثقة في القيم والأفكار المجردة وفي قدرتها على إحداث تغييرات اجتماعية وسياسية كبيرة؛ لقد أثبت فوكو دون أن يعي أنّه فيلسوف فرنسي على شاكلة فلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر، ذلك لأنّ ما جذبه للثورة الإيرانية هو فكرة الثورة ذاتها وروحيّتها.
وقع فوكو في فخّ اليوطوبيا الثورية، وهي النظرة المثالية إلى الثورات، والتي تصاحب بداياتها الأولى، والتي عادة ما يتبناها المفكرون الثوريون، ثم يكتشفون بعد ذلك أن الواقع التالي على الحدث الثوري ليس كما توقعوا، وليس مثالياً كما أرادوا، ويمثّل فوكو حالة نموذجية لانبهار المثقف بالحدث الثوري في أوله، مع ثقة يعطيها للقوى الثورية التي تنقلب في النهاية إلى الفاشية والديكتاتورية أو الحكم الأوتوقراطي، وحالة فوكو نموذجية كذلك؛ لأنّها كانت في أوانها تعبّر عن فئات عريضة من التيارات اليسارية والليبرالية الإيرانية، التي أعطت ثقتها في الخميني، غير عالمة بالاتجاه السلطوي الجديد الذي يمثله الخميني، ولا بنوعية السلطة الجديدة التي يؤسسها، وهي سلطة ثيوقراطية جديدة، آتية من الماضي ومن المخيال الشيعي، المكبوت طويلاً في أعماق شعب لم يمرّ بالحداثة.
إنّ الفخّ، أو الوهم، الثوري الذي وقع فيه فوكو، تكرر في الربيع العربي؛ عندما انجرفت بعض التيارات الليبرالية واليسارية نحو قبول حكم الإسلام السياسي بعد الانتفاضات الثورية؛ فغالباً ما تتبع الانتفاضات الثورية في العالم الإسلامي انبثاقة للإسلام السياسي ووثبة منه إلى الحكم، وكانت الحالة الإيرانية هي الحالة النموذجية لهذا السيناريو، لكن لم يكن فوكو على وعي به؛ بل نظر إلى الثورة الإيرانية نظرة حالمة رومانسية.
صرّح فوكو في إحدى مقالاته التي كتبها أثناء الثورة 26 تشرين الثاني (نوفمبر) 1978)؛ بأنّ “الخميني ليس سياسياً، ولن يكون هناك حزب للخميني؛ لن تكون هناك حكومة للخميني، الخميني بالأحرى هو بؤرة إرادة كلية”، تكشف هذه التصريحات كلّ ما قلناه عن سذاجة فوكو ونواياه الطيبة وتوقعاته الخاطئة حول الثورة الإيرانية، وحقيقة ما يحدث أمام عينيه (لكنّ وصفه للخميني بأنّه “بؤرة إرادة كلية” يشي باعترافه بكارزمية الخميني، التي تحيلنا إلى نظرية فيبر في السلطة الكارزمية، أكثر من إحالتنا إلى أيّ عنصر في فكر فوكو)؛ لكن يمكننا فهم هذه التصريحات بطريقة أخرى؛ عندما صرّح فوكو بذلك، فقد كان ينظر إلى الخميني، وفي ذهنه خبرة سياسية أوروبية خاصة، ترى أنّ قائداً لحركة جماهيرية إما أن يكون سياسياً؛ أي يدخل في سياق السياسة كما تُمارس في أوروبا والغرب عموماً؛ أي السياسة بمعنى المساومات والتوازنات والمواءمات والحلول الوسطى والصفقات، أو أن يكون مؤسّساً لحزب أو حكومة على النمط الغربي كذلك.
لكنّ الحقيقة؛ أنّ الخميني لم يكن كذلك بالفعل، فلم يكن سياسياً، ولا مؤسساً لحزب، ولا رئيس حكومة بالمعنى الغربي، كما قصد فوكو؛ إنّ ما جعل فوكو ينبهر بالخميني أنه تجاوز كلّ تلك التصنيفات الأوروبية للقائد، وكلّ الخبرة التاريخية الأوروبية بالزعامات الشعبية، هذا الاختلاف المطلق وهذا الخروج الحادّ عن المنطق الغربي في ممارسة السياسة، هو الذي أبهر فوكو في الخميني، لكن؛ من كان الخميني تحديداً؟
لقد كان الولي الفقيه، المرشد الأعلى للثورة الإيرانية وللجمهورية الإسلامية التالية، وقد اخترع الخميني سلطة جديدة غير مسبوقة، وغريبة على الخبرة التاريخية الأوروبية، ومن هذه الجهة يكون فوكو على حقّ في وقوفه مشدوهاً أمام الخميني؛ فقد كان ينطلق من منظور غربي لتقييم الخميني، لكن لا يرجع موقف فوكو هذا إلى مجرد استثنائية الحالة الإيرانية والحالة الخمينية وخروجها عن الخبرة التاريخية الغربية؛ بل يرجع كذلك إلى جهل فوكو بشيئين: الأول جهله بالتاريخ السياسي الشيعي، وبالفكر السياسي لدى الشيعة الإمامية، وتحويل الخميني لهذا الفكر إلى نظرية ولاية الفقيه وتكييفه لها كي تناسب الحالة الثورية الإيرانية، والثاني: جهله بالدور السياسي والمؤسسي الذي يمكن أن تلعبه زعامة كارزمية، تلك التي تناولها فيبر بتوسع، وبالسلطة التقليدية التي يمتلكها الفقيه الذي يوظف لاهوتاً سياسياً في حالة شعبوية استثنائية، والتي يمكن أن تُفهم على خطوط نظرية كارل شميت في السلطة والسيادة والحالة الاستثنائية واللاهوت السياسي.
إنّ توجّه فوكو الدائم نحو تجاوز النظريات الكبرى والتنظير المباشر لأحداث التاريخ الكبرى، ونزوعه نحو الاهتمام بالقوى الصغرى والسياسات الصغرى، جعله غير منتبه للتراث النظري لماكس فيبر وكارل شميت، الذي كان يمكن أن يفهم في إطاره الحالة الإيرانية.
وفي التحليل الأخير، لم ينتبه فوكو للدور الأيديولوجي والحشدي الذي يقوم به الجناح الشيعي من الإسلام السياسي في إيران، ولم يكن على وعي تام بنظرية ولاية الفقيه التي كانت هي شرعية وصول الخميني للسلطة، وقد كان هذا الفشل في إدراك الطريق السلطوي الثيوقراطي الذي تسير فيه الثورة الإيرانية، محلّ نقد لاذع من دارسين كثيرين في الغرب، وقد بلغوا حدّ اتهام فوكو بالسذاجة، وأكبر اختبار عملي لمحدودية فكر فوكو السياسي وبقائه أسيراً للمركزية الغربية، دون وعي منه؛ إذ كان من أهم وأكبر نقاد هذه المركزية، لكنّها تسربت إلى وعيه بالثورة الإيرانية رغماً عنه.
نقلاً عن حفريات