محمد الحمامصي
في المجتمعات الحديثة، تمثل أجهزة الاستخبارات أداة الدولة الرئيسة في استباق المخاطر الأمنية من خلال جمع المعلومات وتحليلها، وإنتاج استخبارات تسهم بشكل رئيس في اتخاذ قرارات معينة أو إنشاء مبادرات من شأنها استباق التحديات أو تخفيف آثار التهديدات في حال وقوعها.
انطلاقا من هذه الرؤية تسعى هذه الدراسة “الاستخبارات الاستباقية.. التنبؤ وبناء سياسات الأمن القومي” للباحث د. محمد العربي الصادرة عن مركز المستقبل بأبوظبي، إلى توضيح طبيعة وظيفة ”التنبؤ“، وموقعها المركزي في وظائف مجتمع الاستخبارات الحديثة بمنظماته المختلفة.
يرى العربي أن تحليل البيانات التي يتم جمعها بطرق ووسائل مختلفة من قبل جهاز الاستخبارات الأجنبية في الدولة “س” حول أنشطة معادية أو تمسّ الأمن القومي تقوم بها الدولة “ص” هو نوع من حل الألغاز، وأحيانا تكون الصورة واضحة، إلا أنها في أحيان كثيرة قد تكون مربكة لمتخذ القرار، خاصة مع تضارب البيانات، أو توفر حجم هائل من المعلومات، بما يصعّب استقراء مضمونها.
تعتبر المشكلة الأساسية في هذه المرحلة هي تمييز الحقائق عن التقديرات الشخصية أو المتحيزة، وعلى محللي الاستخبارات هنا إبعاد تقييماتهم عن التحيزات السياسية أو الحزبية، فضلا عن الثقافية أو التاريخية. وإحدى التحديات الحالية التي تواجه هذه العملية ليس نقص المعلومات بل كثرتها على نحو قد يعيق التوصل إلى تقديرات موضوعية أو محايدة.
ويضيف العربي: يقع في نطاق عمل محللي الاستخبارات “تقييم واستباق” التطورات الممكنة في الشؤون الدولية. سواء كانت الجوانب الاقتصادية أم السياسية أم الأمنية أو تلك المتعلقة بالقيادات السياسية في البلدان المعنية. ولا يقتصر تحليل المعلومات الاستخباراتية على وكالات الاستخبارات المعنية بالخارج فقط، فبعض جهات الأمن الداخلي لديها محللون أمنيون.
تمييز الحقائق
◙ التأكد من صحة المعلومة أمر بالغ الأهمية
ويقدم المحللون “تقديرات” مكتوبة لصانع القرار من خلال التسلسل القيادي لأجهزة الاستخبارات. وتأخذ هذه التقديرات شكل “مختصر سياسات” أو “المختصرات اليومية” حيث يتم إرسالها إلى صناع القرار بشكل يومي في حال عدم وجود أزمات، حيث يزداد معدل هذه المختصرات مع كل تطور. وأحيانا يأخذ المنتج التحليلي شكل مؤشرات وتحذيرات؛ حيث يركز على الخطوات المتخذة من قبل بعض الأطراف في الداخل أو الخارج على مصالح الدولة الحيوية.
ويؤكد أن “التنبؤ” يمثل المحك الأساس الذي يقاس على أساسه مدى نجاح أجهزة الاستخبارات أو إخفاقها، فقدرة الجهاز على توقع حدث أو نفي آخر هو المعيار الرئيس للحكم بكونه يقوم بكامل مهامه، على الأقل في نظر السياسيين وجهات الرقابة البرلمانية، فضلا عن دوائر الإعلام والصحافة، وإن كان التنبؤ الوظيفة الوحيدة التي تقوم بها وكالات الاستخبارات، إلا أنّه بمثابة قمة جبل الثلج التي تخفي تحتها وظائف أعمق.
وحول معضلات التنبؤ الاستخباراتي يقول العربي “ليس التنبؤ بالمهمة السهلة، خاصة عندما يتعلق بالأمور الأكثر حساسية وأهمية لأمن الدول ومصالحها. وتجد أجهزة الاستخبارات ومحللوها أنه من الضروري ملاحقة التطورات ومراقبة التحديات المتداخلة، لكي تصيب في تقدير الأمور، ولكي تقوم بوظيفتها في خدمة صانع القرار”. ويتوقف العربي محللا للمعضلات التي تواجه الوظيفة التنبؤية للاستخبارات، ومنها: طلب صناع القرار لنتائج محددة، وتحمل الاستخبارات أعباء الإخفاق، ففي حال إخفاق سياسة الدولة، غالبا ما تُقدم أجهزة الاستخبارات كـ“كبش فداء” للإخفاق؛ حيث يتم تصوير الإخفاق باعتباره “فشلا استخباراتيا”.
◙ يقع في نطاق عمل محللي الاستخبارات تقييم واستباق التطورات الممكنة في الشؤون الدولية، سواء كانت الجوانب الاقتصادية أم السياسية أم الأمنية
ويشير إلى أن أجهزة الاستخبارات بأفرعها المختلفة، فضلا عن وكالاتها المتنوعة والمتنافسة، تقوم على مبدأ “تجزئة المعلومات الاستخباراتية”. ولكونها أجهزة بيروقراطية، فإن المحللين لا يتعاملون إلا مع الأجزاء التي تخصهم وتخص وكالاتهم فقط من الصورة، وبالتالي فليس بمقدورهم الإحاطة بجوانب التطور أو الحدث أو القضية، التي قد يرى المديرون أو السياسيون أنها خارج تخصصهم. ومن هنا، تكون تقديراتهم حتما منقوصة أو تعالج جوانب محددة، فيما يتولى المخططون تجميع الصورة الأكبر.
وقد يتخذ هؤلاء قرارا سياسيا باستبعاد أو تأكيد بعض التقديرات دون أخرى. وقد تنطوي مخاطر التجزئة هذه، وما ينتج عنها من تنافس داخل الوكالات الاستخباراتية وعبرها، على كوارث محققة. والمثال الأبرز في هذا السياق ما كشفت عنه لجنة التحقيق في أحداث 11 سبتمبر 2001 من فجوة في التواصل بين وكالة الاستخبارات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالية، والناتج عن التنافس طويل الأمد.
ويوضح العربي أن تحليل الاتجاهات المستقبلية يشحذ قدرة المحللين على ”التنبؤ“ من خلال استكشاف “نقاط التحول” قبل نموّها. إلا أن منطق الاستخبارات في عالم ما بعد الحرب الباردة، والتغير المتسارع يدفع أغلب الموارد والجهد نحو التركيز على المتغيرات الآنية، وإنتاج تقديرات قصيرة المدى ومباشرة للرد على تطور ما. ويطلق على هذه الحالة طغيان المخصصات في مقابل رصد الاتجاهات المستقبلية، حيث يجعل طغيان المخصصات المحللين يلهثون وراء التطورات التي قد تغطي على القضايا الأهم، وفي مواجهة ذلك، تحاول أجهزة الاستخبارات خلق التوازن بين القضايا المستمرة والمخصصات.
ويكشف أن أجهزة الاستخبارات تعاني ضعفا في الموارد البشرية، وقد يكمن ذلك في ضعف القيادة المؤسسية أو خضوعها للقيادة السياسية؛ أو في تراجع القدرات الثقافية والفكرية للمحللين. واتضح هذا التراجع في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001؛ حيث توسعت أجهزة الاستخبارات في التوظيف دون التدقيق في خلفية المعينين، بفعل ضغط ظروف الحرب على الإرهاب، في الوقت الذي تراجع فيه عدد المتخصصين من حملة الشهادات العليا، وهو ما أدى إلى تدهور المرجعية الثقافية للمهنة، التي عرف عن أصحابها على مر التاريخ المستوى الفكري العالي، وإتقانهم اللغات الأجنبية والآداب.
وقد تتجسد نتائج ضعف الموارد البشرية في تراجع دراسة أجهزة الاستخبارات للنماذج التاريخية الضرورية لفهم الواقع الحالي. ويلفت العربي إلى أن العملية الاستخباراتية قد تعاني تعقيدات مؤسسية، تأتي في أشكال عديدة، من بينها وجود تنافس بين الأجهزة، بما يجعل تقاريرها متضاربة وغير قابلة للتصديق، أو عرضة للتشكيك.
غياب التدقيق
◙ الإحجام عن التدقيق خلق حالة من الفوضى في العراق وسوريا
وربما الحالة الأبرز في هذا السياق إحجام إدارة بارك أوباما عن اتخاذ سياسة أكثر فعالية تجاه تدهور الأوضاع في سوريا والعراق، ما أدى لظهور تنظيم داعش. فبعد سلسلة من المداولات مع الإدارة، كتب السفير الأميركي السابق في سوريا، روبرت فورد، في أواخر عام 2012، تحذيرا مباشرا للبيت الأبيض من إمكانية انتقال عدد كبير من المقاتلين التابعين للقاعدة من العراق إلى سوريا.
وكان الحل الذي كان يدفع فورد تجاهه هو تسريع عملية تسليح المعارضة السورية، ممثلة في ما يسمى الجيش السوري الحر، ليكون بديلا أكثر اعتدالا للمعارضين الراغبين في الإطاحة بنظام الأسد. في تلك الحالة، جاء التحذير من خارج مجتمع الاستخبارات. ولم تفلح الاستخبارات المركزية في معالجته بسبب تردد إدارة أوباما في اتخاذ خطوة ”أكثر فعالية“ في التعامل مع نظام الأسد.
ويتابع العربي أن العمل الاستخباراتي ارتبط منذ البداية بالتطور التكنولوجي، خاصة في ما يتعلق بعمليات جمع المعلومات، من خلال المراقبة ومسح الإشارات، والصور التي يتم جمعها عبر الطائرات المسيّرة وأجهزة الاستشعار عن بعد وغيرها؛ إلا أن التطور الحادث الآن في الخوارزميات وتحليل البيانات الكبرى يبشر بمشاركة الآلات أيضا للمحللين البشريين في عملهم ضمن عملية الاستخبارات.
ويرى أن توظيف الذكاء الاصطناعي في التحليل الاستخباراتي بإمكانه تعزيز ”دقة“ التنبؤات والتقديرات، من خلال الكشف عن النقاط التي يصعب على الإدراك البشري تحديدها، ومن ثم تعزيز قدرة المحللين على إصدار التحذيرات والإنذارات المبكرة، ومن ناحية زيادة قيمة التدخلات البشرية في عملية التحليل. وقد بدأ برنامج “إياربا”، منذ منتصف العقد الماضي، إطلاق مشروعات لتعزيز التنبؤ الفائق، من خلال توظيف الذكاء الاصطناعي. وتوسع البرنامج لاستخدام الحوسبة الكمومية وتقنيات التعرف إلى الوجوه وبرامج الترجمة العالمية وغير ذلك من تقنيات، قد نجدها معروضة في أفلام السينما الأميركية.
“التنبؤ” يمثل المحك الأساس الذي يقاس على أساسه مدى نجاح أجهزة الاستخبارات أو إخفاقها فقدرة الجهاز على توقع حدث أو نفي آخر هو المعيار الرئيس للحكم بكونه يقوم بكامل مهامه
وبالتالي، تستطيع هذه البرامج أن تخترق كل حزم البيانات الخاصة بالأفراد، بما في ذلك تفاعلات الأفراد على فيسبوك وتويتر ويوتيوب وكل استخدام لخاصيات الاستشعار عن بعد، وكل بحث على محركات البحث وكل مقطع مصوّر، وكل حجز إلكتروني، وكل ما يمكن أن يمحو المفاجأة من على مائدة الاستخبارات. ويخلص العربي إلى أن الاستباق سيستمر كجزء أصيل في عمل الاستخبارات الحديثة، ومعيارا للحكم على إخفاقها أو نجاحها في الحفاظ على الأمن القومي ومصالح الدول. وهنا يمكن الإشارة إلى عدة حقائق، على المحللين وصناع القرار التعاطي معها.
أول هذه الحقائق هي أن وقوع المفاجآت سيكون أمرا حتميا؛ ولا تعني قدرة محللي وأجهزة الاستخبارات على الوصول إلى معلومات سرية أنهم بالضرورة سيقضون على عنصر المفاجأة، سواء على المستوى التكتيكي أو الإستراتيجي. الحقيقة الثانية هي أن عناصر القصور البري ستظل قائمة، سواء كانت في شكل تحيزات إدراكية أو أحكام قيمية أو تصورات خاطئة. فالاستخبارات، كالسياسة والحرب، هي عمل بشري. وبالتالي، من الضروري التفكير في وظيفتها من هذا المنطلق بدلا من محاولة التوصل إلى اليقين الكامل الذي لا يتلبّسه أيّ شك أو خطأ، أو ترك الأمر للآلة كي تقرر. أما الحقيقة الثالثة، فهي أنه في ظل التوسع في الاعتماد على المصادر المفتوحة، فستزداد صعوبة معالجة البيانات وتحليلها ومحاولة بناء معنى منها، مع اتسام هذه البيانات بالتحيزات والعاطفية والخداع والتلاعب.
وفي ظل فوضى البيانات، التي يتصف بها العصر الحالي، فعلى أجهزة الاستخبارات بذل جهد إضافي في التفسير والشرح والتأكد من الحقائق الأساسية للتطورات التي تعرض للدولة وصناع قرارها. وبالتالي سيكون على هذه الأجهزة إجراء البحوث الأساسية حول القضايا الجديدة أو الناشئة، وإعمال الفكر التأملي والاستشراف في ما يمكن أن يطرأ في المستقبل من تحديات. لذا، سيظل تطوير العنصر البشري هو الضمان الرئيس لقيام هذه الأجهزة بدورها على أكمل وجه، وبعد هذا يأتي الدور المساعد للآلة.
المصدر العرب اللندنية