كريتر نت – متابعات
مع ترقب أنّ تشنّ إسرائيل هجوما بريا ضد قطاع غزة، يتوقّع محللون أن يتحوّل القطاع المحاصر إلى مسرح لعملية عسكرية دامية ومرهقة وطويلة للغاية في بيئة حضرية مثل القطاع بسبب شبكة حماس الواسعة تحت الأرض.. وسيكون التحدي الأكبر هو حرب مدن، وهي مغامرة تتسم بالفوضى.
وبينما تبدأ إسرائيل المرحلة البرية من حملتها الرامية إلى تدمير القدرات العسكرية وقدرات الحُكم التي تتمتع بها حركة حماس على حد تعبير مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، يقول محللون إنه من الحكمة أن يراجع المسؤولون والمراقبون الدروس المستفادة من ساحات المعارك الحضرية الأخرى التي تم خوضها مؤخرا.
ويقول مايكل نايتس، هو “زميل برنشتاين” في معهد واشنطن، إن كل معركة حضرية هي معركة فريدة بحدّ ذاتها يحددها مخطط المدينة والتضاريس البشرية والقوات فيها، لذا من المفيد كخطوة أولى مقارنة غزة وقواتها المعنية مع ساحات المعارك الأخرى والمقاتلين الآخرين في المناطق الحضرية.
ومع أن مساحة قطاع غزة تبلغ 363 كيلومترا مربعا بالإجمال، يشير تعدد المناطق شبه الحضرية وذات الكثافة الأدنى التي تقع ضمنه إلى أنه من الأدق اعتبار ساحة المعركة الحضرية كشبكة مؤلفة من أربع إلى ست مناطق أصغر حجما، وأكبرها مدينة غزة التي تغطي نحو 52 كيلومترا مربعا، بالإضافة إلى عدد من المناطق التي تبلغ مساحتها 13 كيلومترا مربعا (خان يونس ورفح).
الاستيلاء على غزة يستلزم تنفيذ عملية معادلة لمعركة غرب الموصل بالإضافة إلى معركتين بحجم معركة الرقة
وهذا يجعلها أصغر حجما إلى حد ما من ساحتي المعارك الحضرية السابقة في شرق الموصل وغرب الموصل في العراق (حوالي 77.7 كيلومترا مربعا لكل منهما، وذات مساحة موازية تقريبا لمساحة الرقة في سوريا، أي “العاصمة” السابقة لتنظيم الدولة الإسلامية.
إلا أن عدد سكان غزة البالغ نحو مليوني نسمة يعادل عدد سكان الموصل في عام 2014 تقريبا، عندما سقطت المدينة في أيدي تنظيم الدولة الإسلامية.
ويشير نايتس إلى أن مدينة غزة تتفوق إلى حد كبير على غيرها من بيئات المعارك الحضرية الأخيرة من حيث الكثافة السكانية على الرغم من غير الواضح ما الذي سيكون عدد السكان الذين سيبقون هناك بعد أمر الإخلاء الإسرائيلي وبداية المعركة.
وتعتبر غزة أيضا ساحة معركة حضرية معقّدة بشكل غير عادي، بما في ذلك على صعيد البُعد الثالث. فمدينة غزة تضم نحو ستين مبنى بارتفاع ستة طوابق أو أكثر، مقارنة بعدم وجود أي من هذه المباني تقريباً في معركة الموصل بين عامي 2016 و2017 ومعركة الرقة في عام 2017.
كما استثمرت حركة حماس جهدا هائلا في تطوير أنفاق عسكرية تحت القطاع، مما أدى إلى توسيع مساحة المعركة المحتملة إلى حد غير معروف.
وإذا أُخِذت هذه العناصر كلها في الاعتبار، سوف يستلزم الاستيلاء على كافة البقع الحضرية في غزة تنفيذ عملية معادِلة لمعركة واحدة بحجم معركة غرب الموصل، بالإضافة إلى معركة أو معركتين بحجم معركة الرقة.
وعلاوة على ذلك، تختلف حركة حماس عن الخصوم في معركتي الموصل والرقة وغيرهما من المعارك الحضرية الأصغر حجما مثل معارك عين العرب “كوباني” ومنبج والرمادي والفلوجة.
ولا شك في أنها تتساوى مع تنظيم الدولة الإسلامية من حيث القدرة على تنفيذ التفجيرات الانتحارية، وربما تتفوق عليه في الحرب المضادة للدروع وعمليات الطائرات بدون طيار والدفاع الجوي.
وفي حين أن تنظيم الدولة الإسلامية كان لديه نحو عامين للاستعداد على الصعيد الدفاعي في الموصل والرقة، أمضت حركة حماس خمسة عشر عاما لإعداد “دفاع في العمق” ومكثّف يجمع بين التحصينات الأرضية وتحت الأرض وفوقها وأنفاق الاتصالات ومنصات المدافع ومواقع القتال، بالإضافة إلى حقول الألغام المحتملة والعبوات الناسفة المحسنة والألغام المضادة للدروع والعبوات المتفجرة الخارقة والمباني المفخخة.
لا يمكن السيطرة على غزة من دون إلحاق أضرار كبيرة بالسكان المدنيين، حتى لو بذلت أفضل الجهود
وعلى نفس القدر من الأهمية، تحتجز حماس أكثر من مئتي رهينة إسرائيلية وأجنبية وفقا لمعظم التقارير، بما في ذلك بعض الأميركيين، وهو الأمر الذي يتسم بتعقيد لم يسبق له مثيل.
وفي الثالث عشر من أكتوبر، زعمت حماس أن ثلاثة عشر سجينا، “بمن فيهم أجانب”، قد قتلوا في غارات جوية للجيش الإسرائيلي خلال الأربع والعشرين ساعة التي سبقت ذلك اليوم، في محاولة واضحة لردع إسرائيل عن استخدام قوتها الجوية.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن موقف سكان غزة غير مؤكد. ففي العراق وسوريا، سعى معظم سكان المناطق الحضرية جاهدين إلى الابتعاد عن الجيوب الدفاعية لتنظيم الدولة الإسلامية، لكنهم مُنعوا من القيام بذلك وتم استغلالهم كدروع بشرية.
وعلى الرغم من أن حماس قد تستخدم الرهائن الأجانب بنفس الطريقة تقريبا، إلا أن بعض مواطني غزة على الأقل قد يميلون إلى البقاء في المناطق الحضرية عن طيب خاطر، بل ويدعمون التنظيم بشكل إيجابي أو سلبي، الأمر الذي قد يشكل تعقيدا كبيرا.
على نفس القدر من الأهمية تحتجز حماس أكثر من مئتي رهينة إسرائيلية وأجنبية وفقا لمعظم التقارير بما في ذلك بعض الأميركيين
وقد يكون أحد الاختلافات الرئيسية الأخرى هو جودة قوات الهجوم ومعرفتها العميقة للبيئة. ففي معركتي المدينتين العراقية والسورية المذكورتين أعلاه، كان المهاجمون البريون في معظم الأوقات عبارة عن قوات مشاة خفيفة غير مجهَّزة وشبه مدرَّبة باستثناء المعارك التي شاركت فيها قوات العمليات الخاصة العراقية أو وحدات معينة من قوات سوريا الديمقراطية.
وعلى هذا النحو، لم تكن هذه القوات مستعدة بشكل كاف لمواجهة تعقيد وحداثة تلك البيئات الحضرية. وحتى في أفضل الأحوال، عندما تم تزويد هذه القوات بمعلومات استخباراتية أميركية تم الحصول عليها من خلال ثماني سنوات من الاحتلال وثلاث سنوات من المراقبة المكثفة، إلّا أنها ربما لم تكن على علم جيد مثل جيش الدفاع الإسرائيلي بشأن غزة، وهي المنطقة التي نفذت فيها إسرائيل حربين سابقتين وعقودا من المراقبة المستمرة.
ويختلف جيش الدفاع الإسرائيلي من الناحية النوعية عن الشركاء الذين عملت الولايات المتحدة “بواسطتهم ومعهم ومن خلالهم” في العراق وسوريا.
وسيتم اختبار مدى هذا الاختلاف بدقة عبر القتال الوشيك، لكن يبدو أن جيش الدفاع الإسرائيلي هو القوة الأكثر تماسكا وتجهيزا واستعدادا لخوض المعارك الكبرى في المدن، منذ أن خاض الجيش الأميركي بنفسه “معركة الفلوجة الثانية” المدمرة للغاية في نوفمبر 2004.
ويرى نايتس أنه مع الاختلافات المذكورة أعلاه تؤكد مخاطر الاعتماد المفرط على المقارنات التاريخية، يمكن أن يستخلص المرء عدة دروس مهمة من المعارك الحضرية التي دارت مؤخرا في الشرق الأوسط.
حركة حماس استثمرت جهدا هائلا في تطوير المنظومة الدفاعية مما أدى إلى توسيع مساحة المعركة المحتملة
ويقول إنه من شبه المستحيل تجنب تدمير المناطق الحضرية، إذ تشير الأيام الأولى التي شن فيها جيش الدفاع الإسرائيلي ضرباته على غزة إلى أن إسرائيل مستعدة لإحداث أضرار مادية هائلة سعيا لتحقيق أهدافها العسكرية.
وحتى لو تغير ذلك في بداية المرحلة البرية، إلّا أن كل معركة حضرية تنتهي بالاختيار بين إنقاذ البيئة المادية وإنقاذ أرواح القوات الصديقة. فعند مواجهة مثل هذا القرار، يلجأ المهاجمون عموما إلى الخيار الأخير، خاصة حين يشعرون بالتعب.
وفي غرب الموصل، التي تعتبرها الوكالات الإنسانية معركة مدمرة للغاية، أكدت الأمم المتحدة أن أكثر من 13 ألف مبنى قد تم هدمها أو أصبحت غير صالحة للسكن خلال حوالي 180 يوما من المعارك.
وفي منطقة الرقة الأكثر تركزا، بلغ العدد 11 ألفا (أو 80 في المئة من مباني المدينة) خلال 90 يوما.
وفي غزة، أفادت السلطات المحلية بأن 535 مبنى قد تم تدميرها أو أصبحت غير صالحة للسكن بعد خمسة أيام من الحرب.
ويميل الدمار إلى التسارع عندما تبدأ العمليات البرية وتحتاج القوات إلى الدعم الناري، لذا ستضاهي الأضرار المسببة في غزة على الأرجح تلك التي لحقت بالموصل والرقة أو ستفوقها في النهاية.
وللتكتيكات والتوقيت وجودة القوات أهمية كبيرة، فلا رحمة في المعارك الحضرية بشكل خاص عند ارتكاب الأخطاء والشعور بالخمول وعدم تمتع القوات بجودة عالية أو إنهاكها.
وفي معركة الموصل، سمحت إساءة التوقيت في الهجمات المركزية على المدينة لتنظيم الدولة الإسلامية بحشد قوته الكاملة ضد كل هجمة عراقية متجزئة، وهو خطأ لم يتم تصحيحه إلا في وقت متأخر من المعركة. ولذلك، لم يتم استغلال المكاسب والفرص الآنيّة لتحقيق أي تقدّم، فكانت مساهمة التشكيلات الأضعف ضئيلة، بينما انتهى الأمر بالقوات ذات الجودة الأعلى إلى تحمل وطأة القتال والإصابة بالإرهاق والتعرض للتدمير.
وفي معظم المواجهات الحضرية غالباً ما كان يتم توفير مخرج للعدو. ففي منبج والرقة والفلوجة وعدة معارك صغيرة أخرى، عادةً ما كان يُترك لقوات تنظيم الدولة الإسلامية ممر للهروب. ومع أن هذا الأمر لم يكن مريحا للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، والذي أراد القضاء بشكل حاسم على التهديد المتأتي من هذا التنظيم، كانت تلك التقنية مفيدة للتشظية فساهمت في إنقاذ الأرواح وتقليل الأضرار وتقصير المعارك.
وفي المقابل، لم يستغل تنظيم الدولة الإسلامية فرص الهروب في بعض المعارك مثل معارك الموصل وهجين والباغوز، وكنتيجة لذلك، حُوصر بعض المقاتلين، بينما اندمج آخرون مع السكان المدنيين.
ودعمت الولايات المتحدة المعارك الحضرية الطويلة والمدمرة. وفي الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، دعمت الولايات المتحدة القتال في المدن لمدة 277 يوما في الموصل، و90 يوما في الرقة، و23 يوما في منبج.
وفي المقابل، ضغطت واشنطن والجهات الفاعلة الدولية الأخرى على إسرائيل لإيقاف عمليتها في غزة في ديسمبر 2008 بعد 22 يوماً، ولإيقاف عمليتها في عام 2014 بعد 49 يوماً، مع أن هاتين العمليتين كانتا أقل تدميراً من كلٍ من العمليات الحضرية الثلاث ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
ويشير نايتس إلى أنه لا يمكن تحقيق هذا الهدف (سحق حماس) من دون إلحاق أضرار كبيرة بالسكان المدنيين في غزة، حتى لو بُذلت أفضل الجهود.
ويضيف أن الحقيقة المرّة هي أن عدد القتلى المدنيين في غزة، ناهيك عن المخاطر التي يتعرض لها الرهائن والقوات الإسرائيلية، قد يصل إلى المستويات التي شهدتها معركة الموصل (تقدر بأكثر من 9000 قتيل)، مما يشكل ثمنا باهظا يشبه الثمن الذي دفعه الكثير من العراقيين الأبرياء لإلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية.