محمد جميل أحمد
كاتب سوداني
رغم الصبغة الدينية التي تبدو للوهلة أولى، من كلمة “تسامح”، والتي عادة ما تقترن بكلمة الصفح والعفو، إلا أنّ مفهوم التسامح في العصور الحديثة يختزن الكثير من المعاني الإنسانية التي ترتبط بصورته التي صاغها بعض الفلاسفة الكبار في القرن العشرين؛ مثل الفيلسوف الإنجليزي كارل بوبر. فالتسامح، وفق دلالاته العصرية الحديثة، لا يتصل فقط بذلك المعنى الديني العفوي ذي الدلالة التي لا تعكس تكافؤاً بين الطرفين.
لقد أصبح التسامح، كما شكّلته صورة العلاقات الإنسانية في المجتمع البشري الحديث، مفهوماً يتجاوز المعاني البسيطة ليعكس دلالة وصيرورة تتصل بوعي العلاقات المركبة للمجتمعات الحديثة، وبما يحيل إلى أنّ تشكل المفهوم أصبح اليوم يعني مقتضيات كثيرة ترتبط بحقوق الإنسان، كما ترتبط بالخبرة البشرية التي عرفت قيمة التسامح (بعد حروب واختلافات مجتمعية) كضرورة للتعايش في المجتمعات المفتوحة.
يرتبط التسامح، في تقديرنا، ارتباطاً عضوياً بالحياة المشتركة والمنفتحة للمجتمعات، وهو لذلك شكل من أشكال التعبير عن حياة تتميز بالتنوع والاختلاف والتعدد والتعايش.
والتسامح، كما عرفه الفيلسوف الفرنسي “فولتير”؛ هو: “النتيجة الحتمية لإدراكنا أنّنا لسنا معصومين من الخطأ البشر خطاؤون ونحن نخطئ طوال الوقت”.
ولهذا فإنّ الفرد المتسامح حقاً هو الذي يدرك تلك الحقيقة في ذلك التعريف. وأنّ تسامح الفرد مع الآخرين لا يعني، فقط؛ قدرته على أن يكون متجاوزاً أو متحمِّلاً لاختلافهم معه، ولو على كرهٍ خفيّ منه، بل التسامح يعني: قبول الآخر المختلف كما هو، لا كما نتمنّاه نحن، وما نسقط على قبوله من ميول خاصة بنا.
بطبيعة الحال، إنّ التسامح كمفهوم حديث يحتاج إلى صناعة وتوطين وصيرورة في مجتمعاتنا، لاسيما مجتمعاتنا العربية، التي لا تدل علاقاتها البينية على رسوخ واضح لمفهوم التسامح بمعناه الحديث.
الانفتاح مصير المجتمعات
هناك ضرورة لوعي مفهوم التسامح وفق صيرورته الحديثة في مجتمعاتنا العربية اليوم. وإذا ما بدا متعذراً اليوم أو صعباً؛ اختبار التسامح كطريقة لعيش الحياة المجتمعية بين هويات مختلفة ومتعددة في المجتمع الواحد؛ فإنّ ذلك سيعني أيضاً انسدادات خطيرة في المصائر الكارثية المحتملة لمصير العلاقات البينية في تلك المجتمعات. ذلك أنّه قد تبين، وفق منطق الخبرة البشرية، أنّه مهما انعكست التباينات بين أفراد المجتمع في علاقات مضطربة وغير سوية؛ فإنّ ذلك المصير يمكن أن يكون مصيراً دائماً وأبدياً في غياب التسامح؛ ما يعني، كذلك، أنّه في النهاية لابد من التسامح لخروج مجتمعاتنا من نسق الأوتوقراطية والأحكام الانطباعية وعدم تقبل الآخرين فقط لمجرد اختلافهم.
إنّ لغياب التسامح، بمعناه الحيث، في مجتمعات المنطقة العربية اليوم شواهد كثيرة ووافرة فيما ينعكس في تلك المجتمعات؛ من ظواهر التخلف وتغليب منطق الرأي الواحد، وضعف التعبير عن عقلنة الحياة المدنية، وغيرها.
وأمام هذه الحقائق الصادمة المخيبة للآمال في وتيرة العلاقات البنية المأزومة عموماً؛ يمكننا تفهم حاجتنا العميقة إلى التسامح الذي سيكون، عندئذ، ضرورةً لا ترفاً أو فائضاً من القول.
علينا توطين علاقات التسامح والصبر عليها وتأطيرها تأطيراً تربوياً وتعليمياً في أوساطنا المجتمعية عبر تجارب الخطأ والصواب، وصولاً إلى تأسيس هوية واضحة وبينة للتسامح في علاقاتنا البينية التي هي مظهر تجليات ذلك المفهوم.
لقد أصبح العالم اليوم مجتمعاً مفتوحاً، مهما تصورنا خلاف ذلك.
وطبيعة المجتمع المفتوح ستضطر المجتمعات المغلقة في هذا العالم؛ إما إلى تقبل قيم التسامح واستيعابها، ولو بعد حين طال أم قصر، وإما الفناء في صراع خاسر مع العالم.
ومن هنا سندرك، تماماً، أنّ مسألة توطين التسامح تُقيم في صلب العمل اليومي لتحسين علاقاتنا البينية باستمرار.
التسامح والحوار
بطبيعة الحال، ثمة علاقة وثيقة بين الحوار والتسامح؛ فالحوار هو آلية التسامح وهويته التي تجعل منه تعبيراً حقيقياً في العلاقات البينية للمجتمع.
لا تسامح بدون حوار، ولهذا فإنّ الرؤية الحوارية لمفهوم التسامح تكمن أهميتها في سياق التفعيل المستمر لمبدأ الحوار والتأطير الفلسفي لضرورته في تطبيع علاقات التسامح البديلة لسوء التفاهم أو الخلاف، وحتى الصراع.
والحوار، بوصفه عملية تواصلية مستمرة تتجلى من خلالها هوية التسامح وضرورته وثمراته العظيمة؛ لا تنفك الحاجة إليه كمقدمة للوصول إلى قناعات بينية راسخة للجماعات والأفراد حيال قيمة التسامح، وتبيين الدلالات الحديثة لذلك المفهوم الذي أصبح اليوم هو الصيغة الأكثر استقطاباً لتناقضات المجتمع والجماعات والطوائف والمذاهب.
كما أنّ المبادئ الإنسانية هي، بالضرورة، مبادئ عابرة لجميع مجتمعات البشر وطوائفهم، ولكن تكمن الإشكاليات في سوء الفهم، والقناعات المسبقة، والسرديات المتعارضة حيال كل طائفة أو مجتمع عن الآخر. وكل هذه الإشكاليات، لا يمكن إزالتها إلا بتوطين مفهوم الحوار في نسيج مفهوم التسامح الإنساني عبر التصورات الفلسفية الحديثة لمفهوم التسامح وما يتصل به من صياغات تم تجريبها في المجتمعات المفتوحة، وأدت إلى نتائج إنسانية باهرة في تسكين الصراعات وإزالة سوء الفهم، ومن ثم تقبل الاختلاف كهوية أساسية للبشر : (ولايزالون مختلفين ولذلك خلقهم) كما تقول الآية القرآنية الكريمة.
نقلاً عن حفريات