إبراهيم غرايبة
كاتب أردني
إنّ مرتكبي أسوأ الفظائع ليسوا أشراراً نذروا أنفسهم لتمجيد كل الشرور، فقد يكونون يدللون أطفالهم ويعانقونهم في الفترات الفاصلة بين جرائمهم التي يقتلون فيها آخرين، وربما يصدرون أحكامنا الأخلاقية نفسها عندما يواجهون أنواعاً من القسوة، والمشكلة بالنسبة إلى ضحاياهم هي أنّ أخلاقياتهم يبدو أنّها لا تنطبق عليهم.
يمكن أن نصف الذين يرفضون أن يصدّقوا حقائق أو أحداثاً تاريخية مُجمعاً على وقوعها بأنّهم حمقى ومن السهل إقناعهم، ولكنّ هذا ليس غباء فقط، وإنّما هو نوع من “تشكيل الواقع”، أي الدفاع المتعمد عن المعتقدات القوية بشيء ضد الواقع والحقيقة المرفوضة وغير المرغوب فيها، وقد نضحك من ضلال هؤلاء الناس، ولكن يجب ألّا نقلل من خطورة “تشكيل الواقع”، وكما علّق دافيد فرانكفوتر في كتابه الشر مجسداً: “في كل القضايا التاريخية التي تعاملت معها، كانت هناك أسطورة المؤامرة الشريرة التي تحرك الناس بأعداد كبيرة لارتكاب أعمال من الوحشية المذهلة ضد المتهمين من المتآمرين، ويعني هذا أنّ الجرائم الفظيعة على مرّ التاريخ يبدو أنّها لا ترتكب في إطار طقوس وشعائر فاسدة وضالة ناشئة عن عقيدة شريرة، لكنّها ترتكب على سبيل “تطهير” وتصفية بعض العقائد من العالم الواقعي.
يقول فيليبو مارتيني في “بيان عن المستقبليات”: نمجد الحروب، فهي قاعدة سلامة وصحة العالم، والعسكرية والوطنية، وهي الفعل المدمر لمن يثور على السلطة من الفوضويين، هي الأفكار الرائعة التي من أجلها يموت الإنسان. إنّ مرتكبي القسوة والإيذاء يزودون أنفسهم بالتبريرات، ويستدعون المعتقدات الزائفة عن قوة الضحية وعدوانيتها، والعواطف القوية التي تبرر الدفاع العدواني عن النفس، وقد يكون مصدر العواطف التي توجه الصعوبات الاقتصادية، أو العجز السياسي، أو الخسارة والضرر من الغير، فإنّها تؤجج وتزيد من الصراع الداخلي، وتدعم الحاجة إلى التحكم، فتجعل الإنسان يبحث عن أساليب تخفف من هذا الألم، الذي لا يمكن إغفاله أو تجاهله.
تراكم التفاعل بين التجارب السابقة مع النزوع والميل الجيني يشكّل البحث عن اختيارات متعددة وأيضاً الاختيار من بينها، لكنّ الشخص الذي يبحث عن اختيارات، خصوصاً من يعاني توتراً شديداً، سوف يفضل الحلول البسيطة والسهلة والأقلّ كلفة والمتاحة.
والقادة السياسيون الملتزمون الذين يسعون للكسب الأكبر من إقصاء الغير تقع عليهم مسؤولية كبيرة هنا ويتحملون الوزر، لأنّ الحلول التي تأتي من مصدر قوي وموثوق غالباً ما تكون فاعلة ويسهل تقبلها، ولسوء الحظ فإنّ الحلول العملية والقانونية الفعالة لمشكلات العالم الواقعي ليست غالباً هي الحلول البسيطة أو قليلة التكلفة. وتستطيع المعتقدات الخاصة بإقصاء الغير ملء الفراغ بين التزود بالحقيقة وطلب الأمان، فالمعتقدات تشجع النبذ والإقصاء وتحوّل الجريمة إلى فضيلة، وتثير عواطف قوية مرتبطة بالتهديدات الصادرة من قوى خارج الجماعة (الخوف، الغضب، الاشمئزاز،…)، وكذلك العواطف المجزية من داخل الجماعة (الحب، الكبرياء، الفخر، السعادة،…)، وهذا أيضاً يجعل الضحايا مثل المجرمين، ويقلل من التعاطف معهم. إنّ الإيديولوجيات والقواعد الأخلاقية تجعل القسوة شيئاً معتاداً في المجتمع حتى تصير سلوكاً مقبولاً.
وكجزء من عملية الإبعاد والإقصاء هو أن تقلل الجماعة من قيمة المعتقدات التي تتشارك فيها مع الأعداء، وقد تؤكد أيضاً الاعتقادات التي تناقض الأفكار والمثل العليا الأساسية لمن يعارضونهم، وبعض المعتقدات لم تكن مهمة أو مقدّسة، ولكنّها منحت القداسة عندما قررت الجماعة أهميتها وحاجتها إليها. ومن ذلك الانتقائية للتفسيرات المتشددة للنصوص الدينية، وتسليط هواجس الشذوذ على عقائد الآخرين. ففي تبريره للحرب على السكان الأصليين قال جوليو روكا 1843 ـ 1914 وزير الحرب الأرجنتيني: “احترامنا لذواتنا كرجال يتميزون بالجسارة والحزم يلزمنا أن نقمع ونبيد بأسرع ما يكون وبالمنطق أو بالقوة هذه الزمرة من المتوحشين الذين يدمرون ثرواتنا، ويمنعوننا نهائياً من أن نملك الأرض بالقانون، وأن نتقدم ونحقق أمننا، إنّها أكثر الأراضي ثراء وخصوبة في الجمهورية”.
ويرى دانييل شيرو Daniel Chrot وكلارك ماكّولي Clark McCauly (كتاب سيكولوجية القتل الجماعي) أنّ مرتكبي الجرائم الفظيعة على نطاق واسع لديهم (4) دوافع: الفائدة، والثأر، والخوف، وخشية التلوث، وقد توجد كلها بدرجات متفاوتة في أيّ جريمة، فالخوف يفسر القسوة عندما تُصور جماعة مستهدفة على أنّها شديدة الخطورة، وأنّها تهديد حقيقي للحفاظ على الذات، فيمكن للخوف أن يطلق أفعالاً لا يمكن تخيلها. ويستخدم المتطرفون على نطاق واسع عبارة “أصبحنا مثل الأيتام على مآدب اللئام”، لتوظيف الخوف والتهديد. لكنّ الشعوب التي تعاني من رعب دائم تخاطر بأن تنهار وتصل إلى الهزيمة. ويعتبر الانتقام أو الانجذاب المسموم إلى إنزال العقوبة نوعاً من الاستجابة للغضب، “لن ننسى جرائمكم أيّها الطغاة المستعمرون”، ولكنّ هؤلاء المقصودين بالعبارة قد انتهوا من زمن طويل، ومن ولدوا بعدهم لا يمكن أن يكونوا مسؤولين عن هذه الأمور. وقد تمتد عضوية الجماعة بأسطورة مناسبة إلى مدى تاريخي لتدعم مفهوماً عن تهديد وخطر قديم، وهذا الفكر قد يكون مصدره حديثاً نسبياً، أو تكتنفه أفكار قديمة عن الشر، غالباً ما تكون دينية.
وفي السياسة ترى الجماعات المسيطرة ضرورة إخضاع الجماعات التي تمثل تهديداً حتى تستسلم، وإن لم تكن إحدى الجماعات خطيرة، فلا بدّ من اكتشاف مؤامرة، أو ابتكار الأعداء والنبش في الاتهامات القديمة. وقد يكون الدافع للقتل الجماعي ليس التهديد أو الخوف، ولكنّه الخوف من التلوث الذي يهتم بالتهديدات الرمزية للهوية، وتقع القسوة غالباً بدون مبرر على فئات أقلّ قوة، ولا يستحقون الأذى ولا يشكلون تهديداً. ويمنح المتطرفون والقتلة الإسلاميون اليوم مجالاً واسعاً لبناء مفاهيم وأفكار الخوف من التلوث، والتي تمتد بطبيعة الحال إلى جميع المسلمين، وتكون مشاعر التقزز والاشمئزاز عاطفة مثالية لجعل الجرائم الفظيعة تبدو ضرورية وقانونية.
ولأنّها تهديدات غير مرئية، فذلك يساعد على التهرب من إثباتها، وتستخدم على نحو ناعم تجاه فئات أو أقليات تعيش بين الأغلبية المختلفة، فتدفع الأقلية إلى الانزواء “الجيتو” فيتجمعون معاً، وقد يمتد النبذ والحصار إلى العمل والتجارة والرعاية الصحية والاجتماعية والمصاهرة. وتفيد مشاعر التقزز في تكريس قسوة القلب والاندفاع إلى القتل والأذى بلا تردد، ويتعرض بعض الناس أكثر من غيرهم للقسوة والنبذ، وتردّ هذه القسوة إلى غلظة القلب المبرر عادة بمبررات دينية أو قانونية أو مبتكرة، أو لأسباب طبيعية مثل الفشل والحقد والانتقام. ومعظم القسوة لا تقتل، كما تتعرّض للقسوة فئة من الأقرباء من الأطفال وكبار السن. ويحاول قادة سياسيون أن يقودوا أتباعهم إلى إقصاء الآخر بغرس الخوف من المرض والرهاب والفوبيا، وقد يصعب في هذه الحالة إنقاذ الضحايا.
عندما يعتقد الأقوياء لأيّ سبب أن الحلّ الوحيد هو إقصاء جماعة معينة من الناس، فإنّ منطق الإقصاء لن يكون صعباً، وستكون الطريقة الوحيدة لأن تكون واثقاً أنّ تلك الجماعة لا يمكن تلافي تهديدها إلّا بإبادتها، وسوف يساعد الخوف والغضب في إطلاق عدوان ارتدادي كردّ فعل من الجماعة، فإذا كان التهديد معقولاً وحقيقياً، ويمكن تصديقه، فإنّه يلزم لتحريك المواجهة قدر من الاشمئزاز. وكما تجلب القسوة عواطف سلبية، فإنّها تجلب أيضاً عواطف إيجابية؛ مثل دعم التماسك والصلات الداخلية والانتماء والاندماج.
نقلاً عن حفريات