حميد الكفائي
كثيرون في أوروبا وأميركا تنفسوا الصعداء مطلع هذا العام وتوهموا بأن التباطؤ الاقتصادي العالمي قد انتهى، بعد أن انخفضت أسعار الطاقة، نتيجة لاعتدال فصل الشتاء في العام الماضي، وبدأت معدلات التضخم في معظم الدول الصناعية بالهبوط.
لكن اندلاع الحرب بين حركة حماس وإسرائيل في 7 أكتوبر الجاري، أعادت القلق حول احتمالات إلحاقها أضرارا بالاقتصاد العالمي، إذ تسببت في رفع أسعار النفط عشرين دولارا للبرميل حتى الآن، بينما ارتفعت أسعار الغاز الأوروبية بحوالي الثلث، رغم أن الارتفاع بدأ قبل نشوب الأزمة، بسبب التوقعات بشتاء بارد.
هناك قلق عالمي من تفاقم الأزمة، فإن حصل هذا، وهو ممكن لكنه غير متوقع حسب توقعات المراقبين، فإنه سوف يلحق أضرارا واسعة بالاقتصاد العالمي. وإن لم تتوسع الحرب، وتمكن المجتمع الدولي من إيقافها، فإن التوصل إلى حل سريع لمسببات الحرب، يبقى بعيد الاحتمال، الأمر الذي يبقي الأوضاع الاقتصادية هشة، خصوصا، مع ضعف النمو الاقتصادي وارتفاع معدل التضخم.
لكن الأمر الذي يشكل خطرا أكبر على الاقتصاد العالمي، ربما، ليس ارتفاع أسعار الطاقة فحسب، بل شحتها المحتملة. فإذا ما تواصلت الأزمة، وتأثر الإنتاج في بعض المناطق بالحرب، أو أغلقت ممرات نقل الطاقة من الخليج وشمال أفريقيا إلى أوروبا، لأي سبب كان، فإن الأسعار سترتفع، بينما يشح المعروض من النفط والغاز.
ويرى خبراء أن هذا الاحتمال سوف يخلق كسادا تضخميا، وهو أخطر بكثير من الكساد المعتاد، الذي عادة ما يؤدي إلى خفض الأسعار، نتيجة نقص الطلب على المواد، الناتج أساسا عن شح المال المتولد عن البطالة الناتجة هي الأخرى عن التباطؤ الاقتصادي.
التأثيرات التي سيتركها ارتفاع أسعار الطاقة على الاقتصادات الأوروبية تحديدا ستكون كارثية، إذ سيرتفع معدل التضخم مرة أخرى، بعد أن بدأ في النزول عن مستوياته السابقة. واستنادا إلى الأرقام التي نشرتها الدائرة الإحصائية في الاتحاد الأوروبي، (يوروستات)، فإن معدل التضخم انخفض في منطقة اليورو من 8.6% عام 2022، إلى 5.5% هذا العام، أما في الاتحاد الأوروبي، فقد انخفض من 9.6% عام 2022، إلى 6.4% في يونيو 2023.
أدنى معدل للتضخم في أوروبا كان في لوكسمبورغ، (1%)، تليها بلجيكا وإسبانيا (1.6%)، بينما كان أعلى معدل للتضخم في هنغاريا (19.9%)، تليها سلوفاكيا المجاورة (11.3%) وتشيكيا (11.2%).
وفي بريطانيا، انخفض معدل التضخم بوتيرة أبطأ من الدول الصناعية، من 11.1% في عام 2022 إلى 6.7% الشهر الماضي. هناك احتمال أن يحدِث ارتفاع أسعار الطاقة ارتفاعا في أسعار المواد الأساسية، ما يؤدي إلى تصاعد (كلفة المعيشة) من جديد. ومن أجل درء مثل هذا الاحتمال الضار في سنة انتخابية، ضاعفت حكومة ريشي سوناك جهود استغلال احتياطي بحر الشمال من النفط والغاز.
استطاعت الدول الأوروبية أن تعوض عن الغاز الروسي بطرق عديدة، منها الاتجاه نحو الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة، واستيراد الغاز السائل من مصادر عديدة، منها أميركا والجزائر، ولكن معظمها من الخليج العربي. وقد ارتفعت واردات الغاز السائل الأوروبية في العام الماضي بنسبة 71%، بما في ذلك بريطانيا التي ارتفعت وارداتها، ومعظمها من قطر، بنسبة 74% وفقا للأرقام المعلنة.
ومع كل محاولات البلدان الصناعية للاتجاه إلى الاستثمار في الطاقة الخضراء، على الأقل من أجل الإيفاء بمقررات مؤتمرات المناخ المتلاحقة، لكنها، كما رأينا أعلاه، زادت من وارداتها من الوقود الأحفوري. لا شك أن الحرب الروسية الأوكرانية دفعت العديد من البلدان الصناعية، خصوصا في أوروبا، إلى التفكير جديا بإيجاد بدائل للوقود الأحفوري، وهو هدف تسعى إليه منذ زمن بعيد، لكن هذا المسعى اصطدم مرات عديدة بعقبات مفاجئة، بدأت بجائحة كورونا، وتلتها الحرب في أوكرانيا، التي مازالت مستعرة، ثم الأزمة مع الصين، وأخيرا الحرب في غزة.
هذه الأزمات والحروب أنتجت توجها حمائيا، بدأته إدارة بايدن عام 2021، وتحاول أوروبا الآن تقليده، رغم أنه يخالف النظرية الرأسمالية السائدة، التي نجحت ابتداءً في أميركا، والتي تتلخص بالاعتماد الكلي على قوى السوق الحرة، وتحفيز التنافس بين الشركات من أجل الحصول على إنتاج أفضل وأقل كلفة، مع دور محدود للحكومة، يقتصر على التنظيم والرقابة وتقديم المحفزات الضرورية للنمو الاقتصادي.
إصدار الكونغرس الأميركي “قانون تقليص التضخم” عام 2021، الذي يقدم إعانات وتسهيلات بمليارات الدولارات للشركات الاميركية والغربية، من أجل الحد من التغير المناخي، دفع الشركات إلى التنافس، ولكن ليس من أجل إنتاج الأفضل والأقل كلفة، بل من أجل الحصول على الإعانات والتسهيلات.
استطاع القانون أن يحفز الاقتصاد ويقلص البطالة، كما ساعد الشركات على التوجه لإنتاج بدائل للواردات الصينية والاستثمار في الطاقة الخضراء، لكن الدول الصناعية الرأسمالية كانت إلى عهد قريب، تحذر الدول النامية من التوجه إلى “تعويض الواردات محليا”، لأنه في رأيها “مكلف ولا يشجع التنافس، ولا يستثمر الفرص الاقتصادية التي تتميز بها البلدان المعنية”.
وعلى الرغم من أن الأحزاب المحافظة تحديدا تعارض تدخل الدولة في الاقتصاد إلا عند الضرورات القصوى، إلا أن التوجه العام في أوروبا يكاد يتفق على أن الوضع الحالي، الذي يسمونه “انتقاليا”، يتطلب تدخلا من الدولة لدفع عجلة الاقتصاد عبر التسهيلات والإعانات، وهو النهج الذي تتبعه إدارة بايدن، والذي سيتبعه دون شك حزب العمال في بريطانيا، إن فاز في الانتخابات المقبلة، كما تشير التوقعات، والتي عززها فوزه في الانتخابات الفرعية التي جرت في 19 أكتوبر الجاري في دائرتين انتخابيتين في إنجلترا.
الصحف اليسارية كالغارديان تدفع بهذا الاتجاه، وترى أنه سيقود إلى انتعاش اقتصادي، لكن الصحف والمجلات الاقتصادية البحثية، كالإيكونوميست، تحذر من تقليد الأمريكيين، الذين كانوا سبّاقين إلى تعزيز التنافس والتمسك بمبادئ اقتصاد السوق، والذي كان “سببا لنجاحهم” حسب المجلة.
الدول الصناعية قلقة من تأثير الازمة على أسعار الطاقة العالمية، لكن هناك من يقلل من حجم تأثير ارتفاع أسعار الطاقة على الاقتصاد العالمي الآن لأن العالم صار أقل اعتمادا على النفط أو الوقود الاحفوري بشكل عام.
وكان خبراء في مركز سياسة الطاقة في جامعة كولومبيا قد قدروا قبل خمسة عقود أن برميلا من النفط يضيف ألف دولار للناتج المحلي الإجمالي، لكن المركز عدَّل حساباته عام 2019 فصار 43% فقط من البرميل (أقل من نصف) ينتج ما يعادل المبلغ المذكور، أي بانخفاض قدره 56%. بمعنى أن كفاءة استهلاك النفط قد تحسنت كثيرا، وأن العالم صار أقل اعتمادا على النفط من ذي قبل.
عدم الاستقرار في الشرق الأوسط سوف يتسبب في رفع أسعار الطاقة، ورفع معدل التضخم، وخفض النمو الاقتصادي عالميا. لكن حدة الأزمة الاقتصادية سوف تعتمد على مدى اتساع الصراع الحالي، فإن بقي محدودا، وهذا ما تشير إليه أغلب التقديرات، فإن التأثيرات ستكون محدودة أيضا، لكنه إن استمر واتسع فإن أسعار النفط قد تصل إلى 150 دولارا للبرميل الواحد حسب تقديرات مؤسسة بلومبيرغ، بين مصادر أخرى.
اتساع الحرب ليس في مصلحة أحد، لكن هذا لا يعني أنها لن تتسع، فالحروب لا تندلع برغبة المتحاربين، وإنما باضطرارهم إليها. هذه الحرب يمكن إيقافها إن وجدت الإرادة والحرص عند المجتمع الدولي لتجنيب المنطقة مزيدا من الصراعات والمآسي. فمتى يا ترى تتوفر هذه الإرادة؟ ولماذا لا تكون الآن، قبل أن تودي الحرب بحياة المزيد من الأبرياء؟
نقلاً عن “سكاي نيوز عربية”