حسن فحص
لم تتأخر طهران في ترجمة تداعيات العملية العسكرية التي قامت بها حركة “حماس” في منطقة غلاف غزة والداخل الإسرائيلي، وتسييل أولى النتائج الإيجابية لهذه العملية بدأ أو انطلق من خاصرتها القوقازية على الحدود الشمالية الغربية، وما تسعى إليه من وضع حد لحال التوتر والتصعيد التي سادت بينها وبين جمهورية أذربيجان من جهة، والدولة التركية من جهة أخرى، على خلفية صراع المصالح الاستراتيجية في هذه المنطقة الحيوية لكلا الطرفين الإيراني والتركي.
وعلى رغم عدم اتضاح حجم التقديمات التي من المفترض أن تقدمها إدارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للجانب الإيراني في مقابل الموقف الإيراني الذي سمح للجيش الأذربيجاني باستعادة السيطرة على منطقة قره باغ وإنهاء الوجود والنفوذ الأرميني فيها، وأين ستكون جغرافيا هذه التقديمات أو التنازلات، لكن طهران تبدو في وضع مريح إلى حد كبير بعد أن استطاعت إيصال رسالة واضحة للجانبين الأذربيجاني والتركي بأن أي تغيير في معادلات منطقة القوقاز الجنوبي لا يمكن أن يمر من دون موافقتها أو مراعاة مصالحها الاستراتيجية والجيوسياسية.
اللقاء السداسي أو مجموعة (3+3) الذي استضافته طهران بمشاركة كل من روسيا وتركيا وأرمينيا وأذربيجان في غياب جورجيا، تحول إلى فرصة للنظام الإيراني لتكريس دوره في هذه المنطقة وتأكيد استبعاد كل القوى الخارجية من المشهد أو التأثير المباشر في رسم حدود مصالح هذه الدول، وإمكان التوصل إلى صيغة تعاون إقليمي بعيداً من الدول الغربية، وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية ومعادلة الإمساك بالعصا من الوسط في النزاع الأذربيجاني الأرميني، بما يخدم معركتها الأوسع والاستراتيجية مع روسيا.
وكانت إيران على استعداد للذهاب إلى أقصى الخيارات وآخرها في التصدي للطموحات التركية في القوقاز، والجهود التي بذلتها لفرض أمر واقع بخاصة بعد حرب قره باغ الثانية بين باكو ويريفان عام 2022، من خلال المساعي إلى إحداث ممر بري يربط بين جزأي أذربيجان (الداخل الأذري وإقليم نخجوان) أطلقت عليه اسم “ممر زنكزور” على الاراضي الأرمينية في إقليم سيونيك، على حساب “ممر آرس” القائم الذي يمر عبر الأراضي الإيرانية ويسمح لها بالاحتفاظ بتأثيرها في الوضع الجيوسياسي للقوقاز والأنشطة الاقتصادية، وأن تكون فاعلة في خريطة الممرات البرية والسككية للتجارة العالمية بين الشمال والجنوب، إذ أبلغت الطرفين التركي والأذربيجاني استعدادها للدخول في حرب مفتوحة لمنع تحقق الطموح التركي باستبعادها.
وإضافة إلى ذلك فإن طهران كانت تراقب بقلق مساعي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وأنقرة إلى تأسيس مشروع استراتيجي بإقامة تحالف إقليمي في منطقة أوراسيا يضم مجموعة الدول الناطقة بالتركية، وقد تزايدت هذه المخاوف ومصادر القلق بعد اجتماع “المجلس التركي” الذي انعقد في أنقرة بتاريخ الـ 12 من نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، والإعلان الذي خرج عنه بتشكيل “منظمة الدول التركية” التي تضم تركيا وأذربيجان وقرغيزستان وأوزبكستان وكازاخستان وشمال قبرص، وتجمعها مشتركات العرق واللغة والثقافة والدين.
وإذا ما كان النظام الإيراني قد لجأ إلى خيار التخلي عن تحالفه القديم مع الدولة الأرمينية وتخلى عن موقفه الداعم ليريفان في سيطرتها على إقليم قره باغ على حساب الحقوق الديموغرافية والجغرافية لباكو في هذا الإقليم، فإن المسار الذي اعتمدته حكومة الرئيس الأرميني نيكول باشينيان فتح المجال للنفوذ الأميركي على الخاصرة الشمالية لإيران، وهو موقف إيراني جاء منسجماً مع تراجع روسي عن موقفها المساند ليريفان نتيجة الإرباك الذي أدت إليه سياسة أرمينيا بدعم أوكرانيا، وما يمكن أن ينتج منها من فتح مسالك جديدة لأميركا للنفاذ إلى المنطقة الأوراسية من الخاصرة الأرمينية.
هذا الخيار ترك الباب مفتوحاً أمام باكو والرئيس إلهام علييف للقيام بالخطوة الحاسمة وإنهاء الصراع على إقليم قره باغ وفرض سيطرته عليه وإنهاء الجيب الأرميني داخل أراضي أذربيجان، ولم يكن خياراً أو مساراً مجانياً، بخاصة أن النظام في طهران يخشى من أي تغيير جيوسياسي قد تؤدي إليه هذه الخطوة، وأن تذهب الطموحات الأذربيجانية إلى أبعد من ذلك، بخاصة أن باكو لم تخف رغبتها في إحداث مثل هذا التغيير الذي لا علاقة له بمعركة استعادة أو السيطرة على قره باغ من خلال استحداث “معبر زنكزور” البري للربط بين طرفي أذربيجان.
وسياسة احتواء الطموحات الأرذبيجانية والتصدي للمشروع التركي – الأوراسي بدأتها طهران بالتعاون مع موسكو منذ الإعلان عن بدء العمل في استحداث خط السكك الحديد “أستارا” الذي يشكل الحلقة الأخيرة في مشروع الربط السككي بين طهران ومدينة سانت بطرسبورغ الروسية باتجاه أوروبا الشمالية، ودخول باكو كجزء أساس في هذا المشروع، والخريطة الجديدة التي رسمتها تطورات القوقاز الجنوبي كرست حقائق على المستويين الجيواقتصادي والجيوسياسي، وكبحت إلى حد كبير الطموحات الأوراسية لتركيا، إذ أسقطت أو أخرجت من دائرة التداول مشروع فتح “ممر زنكزور” البري لمصلحة “ممر آرس” للربط بين الأراضي الأذربيجانية من ناحية، وتركيا وأذربيجان والعمق التركي من ناحية أخرى، وفتحت الباب أمام عودة موسكو للمشهد الأوراسي وقطع الطريق على جهود إخراجها من المعادلة القوقازية، فضلاً عن التأسيس لمرحلة جديدة من التعاون الاقتصادي والأمني في هذه المنطقة يتركز على أساس مصالح هذه الدول المشتركة على المستويات الاستراتيجية والقومية والاقتصادية والسياسية.
نقلاً عن “اندبندنت عربية”