كريتر نت – متابعات
بعد انقضاء اليوم الـ14 للحملة العسكرية الإسرائيلية غير المسبوقة على قطاع غزة، انتقل وزير الأمن يؤاف غالنت إلى جبهة الشمال لتقييم وضعها الميداني. فظهر وسط قادة الفرقة 91 في ثكنة برنيت القريبة من الحدود مع لبنان، وخاطب ضباطها النظاميين والاحتياطيين، الذين تم استدعاؤهم بفعل النفير العام الذي أعقب عملية “طوفان الأقصى”، وخاطبهم بحضور قائد الفرقة المقدم شاي كلافر قائلا إن “حزب الله قرر المشاركة في القتال، ونحن نجبي منه ثمنا باهظا”. وقال بلهجة تمزج الخطاب التعبوي بلغة التفاؤل “نحن في حرب ولا خيار أمامنا. سنعمل في كل مكان يتطلب منا ذلك، وسننتصر”.
في اليوم ذاته أي السبت 22 أكتوبر/تشرين الأول، وخلال احتفال تأبيني في بيروت لعلي شقير أحد مقاتلي حزب الله الذين سقطوا خلال إحدى المواجهات الأخيرة مع إسرائيل، وقف الشيخ نعيم قاسم نائب الأمين العام للحزب -وهو أرفع مسؤول حزبي يتحدث منذ بدء الحرب- ليخاطب جمهور المؤبنين مستخدما لغة الأرقام وتسجيل المواقف معا. فقال إن 3 فرق (عسكرية إسرائيلية) موجودة في جنوب لبنان في مقابل حزب الله و5 فرق موجودة في مقابل غزة، ولو لم يكن حزب الله جزءا في هذه المواجهة، لكانت كل هذه الفرق هناك. وقال أيضا “ليكن واضحا أنه كلما تتالت الأحداث، ونشأ ما يستدعي أن يكون تدخّلنا أكبر، فسنفعل ذلك”.
عكست تعهدات غالانت وتقديرات قاسم وتلميحاته رؤيتَي الحكومة الإسرائيلية وقيادة حزب الله، لما يمكن أن تشهده في مقبل الأيام جبهة الشمال. علما أن التغييرات اللوجستية والميدانية، التي سجلت خلال الأسبوعين على الحدود، كانت الأعمق -وفق مراقبين- منذ حرب تموز عام 2006، التي كانت أوسع مواجهة بين الطرفين منذ انسحاب إسرائيل مرغمة من جنوب لبنان عام 2000.
إخلاء المستوطنات
في الجانب اللوجستي المتعلق بسلامة مستوطنات الجليل، أعلنت وزارة الدفاع وقيادة الجيش الإسرائيليين في 16 أكتوبر/تشرين الأول عن خطة لإجلاء سكان 28 تجمعا سكنيا في المناطق التي تبعد ما يصل إلى كيلومترين عن الحدود اللبنانية، ونقلهم إلى دور ضيافة تمولها الحكومة، وهو ما بوشر بتنفيذه فورا. وفي 21 أكتوبر/تشرين الأول قررت وزارة الحرب الإسرائيلية توسيع نطاق عملية الإخلاء مشيرة إلى إجلاء سكان 14 مستوطنة أخرى على أن تشمل العملية المستوطنات القائمة بعمق 5 كيلومترات من الحدود مع لبنان. وارتفع بذلك إجمالي عدد المستوطنات التي تقرر إخلاؤها خلال أسبوع إلى 43؛ ضمنها “كريات شمونة – الخالصة” كبرى بلدات الجليل الأعلى، والتي تضم 23 ألف مستوطن.
في الجانب القتالي حصر الجيش الإسرائيلي في أيام القتال الأولى النطاق الجغرافي لردوده في مزارع شبعا ومحيطها في القطاع الشرقي من الجبهة، وفي القرى اللبنانية المحاذية للشريط الحدودي التي كان المقاومون يتسللون منها في القطاعين الأوسط والغربي. واستخدم في ردوده المدفعية ومدافع الدبابات والمروحيات لتدمير ما يعتقد أنها مجمعات عسكرية ونقاط مراقبة لحزب الله.
استخدام الطيران
لكنه ما لبث أن وسّع النطاق الجغرافي للقصف المدفعي في نهاية الأسبوع الثاني للمواجهات، حيث وصل إلى عمق 8 كيلومترات داخل حدود لبنان، باستهدافه أطراف بلدتي القليعة ومرجعيون وبلدة بيت ليف. واعتبارا من 19 أكتوبر/تشرين الأول أدخل الجيش الإسرائيلي المقاتلات الحربية التي شنت غارات على محيط بلدات جنوبية بينها عيترون. وحلقت بكثافة على علو منخفض بسماء صور والزهراني، ووصلت إلى العاصمة بيروت حيث خرقت جدار الصوت.
وأقر الجيش الإسرائيلي بحصيلة متواضعة من الخسائر البشرية خلال الأسبوعين الأولين من المواجهات على طول الحدود الجنوبية للبنان. ونقلت وكالة رويترز عن مصادر الجيش الإسرائيلي أنه خسر 7 جنود خلال الأعمال القتالية الأخيرة. وأكدت بياناته العلنية مقتل المقدم عليم سعد عبد الله نائب قائد لواء 300 في فرقة الجليل في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول، والملازم أميتاي تسفي غرانوت في 16 أكتوبر/تشرين الأول، والرقيب أول عمر بايلو في 20 من الشهر ذاته، إلى جانب الإقرار بإصابة عدد قليل من الجنود.
في الجهة المقابلة من جبهة القتال، لجأ نحو 1500 من سكان القرى الحدودية تباعا، إلى أماكن أكثر أمنا في مدينة صور، حيث توزعوا على مراكز أيواء أقيمت في المدارس الرسمية والخاصة، بمبادرة من لجنة تتبع لبلدية المدينة. وفي تقرير صدر في 23 أكتوبر/تشرين الأول حددت منظمة الهجرة الدولية عدد النازحين من قرى الجنوب إلى صور واتجاه الشمال عموما منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول بـ19 ألفا و646 شخصا. وفي ذات اليوم نفّذ الجيش اللبناني انتشارا في المناطق الحدودية الجنوبية، وسيّر دوريات، بالتنسيق مع قوة الأمم المتحدة” اليونيفيل”.
عائلة لبنانية تقيم في إحدى مدارس صور بعد نزوحها من مناطق القتال في الجنوب (الأناضول)
أما في الجانب العسكري، فبادر مقاتلو حزب الله منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول إلى قصف 3 مواقع للجيش الإسرائيلي بمزارع شبعا المحتلة وغير المأهولة، في القطاع الشرقي من الجبهة. وفي القطاعين الأوسط والغربي بدأت مجموعات مقاتلة فلسطينية تتبع لحركتي حماس والجهاد الإسلامي باجتياز الشريط الحدودي، ومهاجمة أهداف عسكرية إسرائيلية في مستوطنات الشمال. وفي 15 أكتوبر/تشرين الأول أطلقت “كتائب القسام” الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية “حماس” في لبنان؛ 20 صاروخا على مستوطنتي شلومي ونهاريا، ومحيطهما. وفي 18 أكتوبر/تشرين الأول قالت “قوات الفجر” في بيان إنها “استهدفت بالصواريخ مواقع إسرائيلية في الأراضي المحتلة”، مما يفيد بإحياء الجناح العسكري للجماعة الإسلامية في لبنان، لأول مرة منذ غزوه من قبل الجيش الإسرائيلي عام 1982.
استهداف منهجي لأبراج المراقبة
إلا أن المجهود القتالي الأساسي على جبهة الشمال بقي مرتبطا بعمليات حزب الله. وأعطت بياناته الرسمية صورة عن الأعمال القتالية، ونوعية الأسلحة التي استخدمت فيها. ففي بيانين صادرين في 7 و11 أكتوبر/تشرين الأول، أشير إلى عمليات قصف باستخدام قذائف المدفعية والصواريخ الموجّهة لأهداف ثابتة مثل المدرعات ومراكز المراقبة. وفي بيان آخر صدر في 19 أكتوبر/تشرين الأول أشير إلى استهداف مركز قيادة كتيبة تابعة للواء الغربي بالصواريخ الموجّهة وقذائف الهاون. وأظهرت صور بثها إعلام الحزب الاستهداف المنهجي بالقذائف والرشاشات، لمراكز المراقبة الإلكترونية الإسرائيلية وأبراجها الحديدية المنتشرة خلف الشريط الحدودي، وهو ما دفع الجيش الإسرائيلي -وفق مراقبين- لاستخدام المسيّرات بكثافة في عمليات المراقبة والرصد، تعويضا لخسارة كاميرات المراقبة، إلى جانب استخدامها في عمليات القصف. ولغاية اليوم الـ17 للحرب، كان حزب الله قد خسر30 من مقاتليه.
وتفيد طبيعة العمليات القتالية المسجلة على جبهة الشمال في الأسابيع الثلاثة الأولى للحرب، أنها ما زالت محدودة النطاق الجغرافي والمجهود الحربي. لكن ذلك لا يعني تحسب الخبراء الإسرائيليين والدوليين من اتساعها، اعتمادا على تقديراتهم للتطورات السياسية والميدانية، المتصلة بسير العمليات القتالية على جبهة قطاع غزة.
في هذا الصدد نشر معهد أبحاث الأمن القومي في إسرائيل في 19 أكتوبر/تشرين الأول على موقعه تقديراته لحجم قوات حزب الله بما في ذلك صواريخه الدقيقة والطائرات المسيّرة وعشرات ألوف المقاتلين.
ترسانة حزب الله
وجاء في التقدير أن “حزب الله جيش إيراني مزود بأنواع مختلفة من الأسلحة ذات قدرة تدميرية كبيرة. ويتكون هذا الجيش من جنود نظاميين ورجال احتياط، والتقدير أنهم يعدون ما بين 50 ألفا إلى 100 ألف مقاتل. ويشمل هذا العدد أيضا قوة الرضوان، وهي وحدات كوماندوز ذات تجربة قتالية من المواجهات في سوريا وعدد أفرادها -وفق تقديرات حذرة- حوالي 2500 مقاتل وربما أكثر. ويمكن أن نضيف لهذا العديد دعما خارجيا من نشطاء شيعة، من أراض مختلفة مثل أفغانستان، وباكستان، وسوريا والعراق”.
وأضاف التقدير أن “الوسائل الهجومية لحزب الله مذهلة جدا”، وأنها تشمل “كمية هائلة، حوالي 150 ألفا إلى 200 ألف صاروخ، وقذائف، بينها مئات الصواريخ ذات دقة عالية وقدرة تدمير كبيرة”. ويتبين في التقدير أنه “أثناء مواجهة يتطلب الأمر توجيه منظوماتنا المضادة للدفاع المركز عن البنى التحتية المدنية والعسكرية”.
ومن المعطيات التي يوردها التقرير يتبين أنه وفق تقديرات تستند إلى معلومات علنية فإن لدى حزب الله 40 ألف صاروخ من نوع غراد لمدى قصير بين 15 و20 كيلومترا. و80 ألف صاروخ من طراز فجر 3 وفجر 5، فضلا عن “خيبر” أو “رعد 2 و3” متوسط المدى حوالي 100 كيلو. وهناك 30 ألف صاروخ من طراز زلزال أو فاتح 110 “إم 600” (M600) الذي يبلغ مداه 200-300 كيلومتر. وتسلم حزب الله من سوريا عددا قليلا من صواريخ سكود سي ودي يصل مداها إلى 700 كيلو متر. وتحمل عدة مئات من صواريخ “فاتح 110” رؤوسا حربية وزنها 500 كيلوغرام من المتفجرات ومزودة بأجهزة توجيه دقيقة تستند إلى “جي بي إس” (GPS)، وهي تملك دقة وقدرة تدميرية كبيرة.
منع هجوم بري على غزة
كما أن لدى حزب الله صواريخ “بر- بحر نوعية من طراز “سي 802″ (C802) إنتاج الصين، و”ياخونت” إنتاج روسيا، وصواريخ “كورنيت” متطورة ومعدلة وقدرات لإطلاق قذائف هاون، وصواريخ مضادة للطائرات من نوع سام 17 وسام 22 المؤهلين لضرب الطائرات المسيّرة وطائرات الهيلوكوبتر”.
وأشار التقدير إلى أن “القوة المقاتلة لحزب الله مزودة بطائرات مسيّرة معظمها إنتاج محلي لأغراض هجومية واستخبارية يبلغ مداها 400 كيلومتر ومئات من المسيّرات لأغراض تكتيكية مختلفة. وفضلا عن ذلك يملكون قدرات إضافية في المجالين الرقمي والكهروضوئي”. ويخلص التقدير إلى أن “كل ذلك يوجِب تركيز المتابعة والجاهزية الدائمة تجاه حزب الله خصوصا في هذا الوقت”.
زعزعة الثقة
أما في مجال تقدير الموقفين الأمني والعسكري، فيبني المحللون الأمنيون الإسرائيليون توقعاتهم لما يمكن أن يحدث في جبهة الشمال على انخراط الجيش الإسرائيلي بحملة عسكرية برية في جبهة قطاع غزة من عدمه. وقال رئيس الطاقم السياسي الأمني في وزارة الدفاع سابقا الجنرال عاموس جلعاد في 18 أكتوبر/تشرين الأول في مقابلة إذاعية “الواقع أن حزب الله لا يستخدم القوة التي لديه ضد إسرائيل، وإلا فإن الواقع سيكون مختلفا. إنهم فعلا يريدون زعزعة الثقة بالنفس ومنع هجوم بري على غزة”.
وفي اليوم ذاته كتب عاموس هارئيل في هآرتس “يشهد الشمال تبادلا للضربات القاتلة بين “حزب الله” والجيش الإسرائيلي، لكن من دون أن يبادر الحزب إلى شنّ عملية هجومية كبيرة، ومن المحتمل أنه ينتظر ليرى كيف ستتصرف إسرائيل على أراضي غزة”. ويمضي هارئيل قائلا “حتى الآن، لم يتحدث “حزب الله”، علنا، عن محاولاته التسلل إلى “أراضي إسرائيل”، لأنه يريد المحافظة على “لعبة المعادلة” والبقاء تحت عتبة الحرب الشاملة. ومع ذلك، من الواضح تماما أن التنظيم اللبناني يشدّ الخيط طوال الوقت، وهو مستعد للمخاطرة والدخول في مواجهة. ويمكن أن تكون تجاربه السابقة، التي كان من الواضح فيها أن إسرائيل لا تريد حربا، زادت في ثقة الأمين العام للحزب حسن نصر الله بنفسه، وهذا قد يكون خطأ مصيريا بالنسبة إليه”.
أما تامير هيمان فذهب في مقال نشرته ” يديعوت” في 17 أكتوبر/تشرين الأول إلى قراءة دلالات سلوك حزب الله في الميدان والمعادلات التي أرسيت خلال المواجهات السابقة بين الطرفين على جبهة القتال. ويقول “خلال الأيام الأخيرة، نشهد أحداثا كثيرة على الحدود الشمالية، “حزب الله” منخرط في القتال، لكنه في هذه المرحلة يلتزم بما يُعتبر، في نظر نصر الله، أنه معادلات الرد الطبيعية الخاصة به. يسمح للفلسطينيين بالعمل من لبنان ضد إسرائيل (وهو ما حدث أيضا خلال جولات القتال السابقة في غزة)، ويطلق النار بنفسه، بشكل رمزي، نحو مزارع شبعا (أبعد نقطة عن البلدات الإسرائيلية)، لكن الجزء الأخطر هو أن نصر الله يلتزم بالمعادلة التي وُضعت سابقا، وتنص على أن كل قتيل من “حزب الله” يستوجب الرد المشابه من التنظيم ضد إسرائيل ومحاولة تدفيعها ثمنا مشابها من جنود الجيش”.
ومقابل التقديرات الحذرة للخبراء الأمنيين الإسرائيليين إزاء ما يمكن أن يحدث على حدود لبنان الجنوبية كان لهيكو وايمن الخبير في مجموعة الأزمات الدولية قراءة مختلفة في تقرير نشرته المجموعة في 14 أكتوبر/تشرين الأول. يقول وايمن “حتى الآن، ظل تبادل إطلاق النار ضمن الحدود التي وضعها حزب الله وإسرائيل على مدى سنوات. لم تنشأ قواعد الاشتباك غير المحكمة هذه من خلال نقاشات مفتوحة، بل ترسخت ضمنا من خلال كثير من المناوشات بين الطرفين منذ صراعهما الكبير الأخير في عام 2006. ونظرا لحرص الطرفين على عدم تكرار أهوال تلك الحرب، فإن كليهما بذلا ما في وسعهما على نحو متكرر لتجنب مواجهة مماثلة”.
مخاطرة
وتطرق وايمن في تقريره إلى الهجمات الصاروخية التي شنها المقاومون الفلسطينيون انطلاقا من جنوب لبنان فقال “تحمل الصواريخ التي تطلقها مجموعات فلسطينية إلى شمال إسرائيل مخاطرة تصعيد كبير آخر. وعلى عكس حزب الله، تستعمل هذه المجموعات قذائف غير موجهة، بدون سيطرة تقريبا على مكان وقوعها”. ويخلص وايمن إلى القول “إن فتح جبهة ثانية لن يؤدي مباشرة بالضرورة إلى حرب شاملة يحاول حزب الله وإسرائيل عدم إشعالها منذ عام 2006. بدلا من ذلك، قد يقرر حزب الله أن يرفع درجة الحرارة تدريجيا لرفع تكاليف الصراع على إسرائيل. وقد يحسب أن إسرائيل، مع انشغالها في غزة، ستتساهل مع استفزازات صارخة أكثر مما حدث حتى الآن لمنع حدوث تكرار لحرب عام 2006”.
المصدر : الجزيرة