أحمد سالم
كاتب مصري
في ظل ظروف المنطقة العربية التاريخية، يجد الإنسان العربي نفسه في مواجهة أسئلة حساسة حول حقيقة العناية الإلهية في الكون؛ أين العدل ممّا تعيش فيه الأوطان العربية من تغييرات وتطورات متلاحقة؟ وما مصدر الشر في العالم؟ فهل الإرادة الإنسانية هي المسؤولة عما يجري أم مرده للقضاء والقدر؟
هذه الأسئلة تجعلنا نعود أدراجنا للفلسفة وعلم الكلام، لنرى كيف نظر القدماء إلى مشكلة الشر في العالم؛ بين الإرادة الإلهية بقضائها وقدرها من ناحية، وقدرة الإرادة الإنسانية على الفعل من ناحية أخرى.
رأى المعتزلة، وهم أهل العدل والتوحيد، أنّ أفعال الله تعالى كلها عدل ولا جور أو ظلم فيها، فالله تعالى لا يفعل إلا الأصلح لعباده، ولا يُقدّر لهم الشر، لذلك نزّه المعتزلة الله تعالى عن فعل الشر؛ لأنّ الله خير محض، ومن هنا قيّد المعتزلة الإرادة الإلهية بفعل الخير، من حيث أرادوا تنزيهه، ورأوا أنّ الشر مصدره الإرادة الإنسانية الحرة؛ فالإرادة الإنسانية حرة، وتملك الاستقلال وحرية الاختيار في فعل الخير والشر معاً.
وانتقد الأشاعرة كلام المعتزلة؛ لأنّه قيّد مقدرة الله تعالى وفعله وحصره في فعل الخير فقط، مُقيداً مقدرته على فعل الشر، ومن ثم فإنّ المعتزلة تنتقص من كمال الإرادة الإلهية، وكمال قدرتها، وشمولها وإطلاقها. ورأى الأشاعرة أنّ قدرة الله تعالى على الفعل شاملة ومطلقة في فعل الخير والشر، ويقول الغزالي؛ “ليس في وسعهم أن ينكروا أنّ الله تعالى لا يفعل الأصلح دائماً؛ إذ لو كان يفعله لوجب، على حد زعمهم، ألا يطرد آدم وزوجه من الجنة، فلمّا أمر بهبوطهما، كان ذلك دليلاً على عكس ما يرون؛ إذ ليس من العدل والصلاح، حسب اعتقادهم، أن يؤخذ الأبناء بجريرة الآباء”.
ويرفض ابن رشد مقولة الأشعرية في العدل والجور في حق الله “لأنها مقولة غريبة جداً في العقل والشرع”، ثُمّ يلخص هذا الرأي بأنّ الإنسان يوصف بالعدل تارة وبالجور تارة أخرى؛ لأنّ الشرع أمره ببعض الأفعال ونهاه عن البعض الآخر، فمن أتى ما رضيه الشرع كان عادلاً، ومن أتى ما نهى عنه الشرع ووصفه بالجور كان جائراً، أما الله سبحانه وتعالى، وهو فوق كل أمر وتكليف، فليس في حقه فعل هو جور أو عدل، بل كل أفعاله عدل، وكان من هذا أن قالوا؛ ليس شيء في نفسه عدلاً ولا شيء في نفسه جوراً، بل يرجع كل ذلك إلى الشرع الذي لو أمر بأي معصية لكان ذلك عدلاً، وهذا في غاية الشناعة، وخلاف للمسموع والمعقول.
هكذا، يرى فيلسوف الأندلس أنّ موقف الأشاعرة في هذه المسألة “خلافاً للمسموع والمعقول”، وذلك لأنّ الله تعالى وصف نفسه بأنّه القائم بالقسط وبأنه لا يَظلم؛ إذ يقول: “شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (آل عمران: 18)، وقوله تعالى: “مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ” (فصلت: 46)، وإذ يقول أيضاً: “إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ” (يونس: 44).
يريد فيلسوفنا بهذا أن يُقرّ أنّ هذه الآيات، وأمثالها في القرآن الكريم، تشهد بأنّ من الأفعال ما هو في نفسه عدل؛ كثواب المطيع، وما هو في نفسه ظلم؛ كتعذيب البريء الذي لم يقترف إثماً.
ولنا أن نقول بأنّ الأشاعرة، حين ذهبوا هذا المذهب في هذه المسألة، تناسوا أن يقولوا بأنّه تعالى، وإن كان لا يجب عليه إثابة المطيع، إلا أنّه سيفعل هذا حتماً، تحقيقاً لوعده به، ومن أوفى بوعده من الله! إنّه حين تُحل هذه المشكلة هذا الحل، الذي يُحقق لله العدالة والإرادة والقدرة المطلقة يشعر الإنسان أنّه تحت حكم إله ليس عادلاً كل العدل فحسب، بل عادل ورحيم أيضاً؛ إذ وعد بالمغفرة لمن تاب من العصاة، وبأنه لن يضيع أجر من أحسن عملاً .
ومع هذا، فإنّ ابن رشد لم يسلم برأيه حتى الآن، بل كان عليه أن ينال بالتأويل آيات من القرآن الكريم لا تدل بظاهرها لرأيه، وأن يفسر آيات أخرى تشهد لرأيه، مثلاً جاء في سورة المدثر (آية 31)؛ “يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ”، وفي سورة السجدة (آية 13)؛ “وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا..”، إلى آيات أخرى تدل، إذا أخذت حرفياً ومستقلة عن غيرها، على أنّ الله أراد إضلال بعض خلقه، وهذا يعتبر جوراً طبعاً.
وهنا نرى ابن رشد لا يعبأ بالجواب عن هذه المشكلة. إنّه يرى بحق أنّ هذه الآيات ظاهرها لا يتفق وآيات أخرى تدل على عكس هذا المعنى، مثل قوله تعالى في سورة الزمر (آية 7)؛ “إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ”؛ إذ من البين بنفسه أنه متى كان الله لا يرضى الكفر لأحد من عباده فإنّه لا يرضى طبعاً أن يوقع أحداً في الضلال المؤدي إليه، والنتيجة لهذا وذاك أنه يجب، منعاً للتعارض بين آيات القرآن الكريم، تأويل آيات الضرب الأول بما يجعلها تتفق والآيات الأخرى، فهذا هو اللازم عقلاً وما يتفق وعدل الله الشامل العام.
ولجأ ابن رشد إلى تأويل آيات القرآن الكريم التي يتعارض ظاهرها مع موقفه مثل “يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ”، على أنّ فيلسوفنا كان جد موفق في تأويل الآية الأخرى التي تقول “وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا”، إنّه يرى أن ما يكون خيراً للأكثر من الناس قد يكون سبباً لشر، هو هنا الضلال مثلاً، يصيب الأقل، فليس من الحكمة ألّا يخلق هذا الذي يكون منه الخير للأكثر كي لا يكون بسببه الشر للأقل، بل خلقه – والأمر هكذا – يكون عدلاً كل العدل، ولهذا جاء في الآية 26 من سورة البقرة، قوله تعالى “يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ”، ومن الواضح بعد هذا، كما يقول ابن رشد نفسه، أن نتصور كيف ينسب إلى الله الإضلال مع العدل ونفي الظلم، وأنّه إنما خلق أسباب الضلال لأنه ينتج عنها غالباً الهداية أكثر من الضلال.
وفي اللحظة المعاصرة، نحن بحاجة لبناء تصور قائم على تحقيق الاستقلال النسبي لإرادة الإنسان والطبيعة حتى يحقق الإنسان حريته في الفعل، وحقه في الاستخلاف في الكون، وتوظيف ما في الطبيعة، على أن يتحمل الإنسان مسؤولية فعله سواء أكان خيراً أم شراً، وذلك لصالح نهضة الإنسان وتقدمه، ولا نحمل قدر الله المسؤولية عن أفعالنا وأخطائنا، وأن لا نتنصل من المسؤولية باسم القضاء الإلهي.
نقلاً عن حفريات