أمين الزاوي
تمر قرون على سقوط غرناطة، كان ذلك في الثاني من يناير (كانون الثاني) عام 1492، ولا يزال المسلمون يتباكون على الأندلس وعلى أيامهم فيها في قصائد الشعر حره ونثره وعموده، وفي الخطب السياسية اليمينية واليسارية والوسطية، وعلى منابر المساجد في خطب الأعياد والجمعات، وفي دروس التاريخ المطبوعة في كتب الأطفال والكبار أيضاً، وفي الروايات وفي الأغاني والموشحات، هذا التباكي من المسلمين عربهم وأمازيغهم يصل بهم إلى حد نوستالجيا العودة لهناك، الجنة المفقودة، عرب وأمازيغ من طنجة إلى دمشق لم يستطيعوا بناء أندلس على أرضهم الطبيعية والشرعية ويحنون إليها في أوهامهم وأحلامهم منتهية الصلاحية.
قرأنا جميعنا أو بعضنا في الأقل كتاب “العمدة” لابن رشيق و”التوابع والزوابع” لابن شهيد، وقرأنا “الفتوحات المكية” لابن عربي وكتب ابن باجة و”طوق الحمامة” لابن حزم، وقرأنا بعضاً من تصوف ابن سبعين وابن المرأة وشعر ابن قزمان وابن زيدون وولادة بنت المستكفي ولسان الدين ابن الخطيب وأبو إسحاق الإلبيري وابن خفاجة وابن زمرك، وقرأنا كتب ابن رشد وفصول معركته الفكرية مع الغزالي، وقرأنا كتب ابن ميمون. كانت الحياة كبيرة وسماء الإبداع عالية على رغم ما كان يشوبها بين الحين والآخر من تضييق على الرأي كما حدث مع ابن رشد ومع ابن حزم وابن عربي، ولكن على رغم ذلك كان “الخير” أكبر من “الشر” والعمل أكبر من الكسل والاجتهاد أعظم من النقل.
فحين كانت الأندلس تحت حكم العرب والأمازيغ كانت الحياة فيها بديعة، كان الموسيقيون الفقهاء، كان المغنون والمؤذنون ومجودو القرآن، أماكن العبادة إلى جانب أماكن اللهو، كانت المساجد العامرة وكانت الكنائس المسيحية والكنيس اليهودي، وكانت فضاءات الطب والفلك عامرة بطلاب العلم.
وكانت للمرأة المسلمة الأندلسية مكانتها، ولها حضورها الفاعل في كل ميادين الحياة من قرارات قصر الرئاسة إلى الوزارة إلى الدبلوماسية إلى الشعر والفقه والفلسفة والموسيقى.
ولكن مع ذلك، لم تكن الأندلس كلها بستان ورد وعناقيد سعادة كما يتصورها كثيرون، كان الصراع السياسي والأسري مشتعلاً حول السلطة، وهو أمر طبيعي أيضاً، تقاسم الأمراء المدن والقرى والضواحي والنواحي، وخرج الابن ضد أبيه أو عمه في حرب وقودها شهوة الحكم.
حين كان المسلمون بعربهم وأمازيغهم في السلطة العليا بالأندلس وعلى رغم صراعاتهم، إلا أنهم بنوا تحفاً معمارية مدهشة وخالدة لا تزال شاهدة حتى اليوم على الدرجة العالية للحس الجمالي السامي وعلى الذوق الاستثنائي الذي كان يسود، شيدوا القصور الخرافية السحرية والمساجد العظمى، وأقاموا الأحياء السكنية على تخطيط عمراني محكم يتماشى وطبيعة الثقافة الإسلامية وغير الإسلامية من أهل العقائد الأخرى كاليهود والمسيحيين الذين كانوا متعايشين في سلام وتنافع، احترموا الماء والمطر والطير فوق الشجر، لم يتركوا أمراً للإهمال أو للنسيان أو التفريط، كانت الحياة تمشي على سكة الرقي والفنون وسلطة العقل والسعي وراء المال وتبادل المصالح.
اليوم من يرغب في دراسة تاريخ فن العمارة الإسلامية البربرية والعربية على أصولها وقيمها الحقيقية، كالمساجد والقصور والحمامات وتنظيم الأحياء وفن البستنة عليه أن يشد الرحال إلى الأندلس الإسبانية، فهي المكان الأصيل لمثل هذه الدراسات، بدلاً من الذهاب إلى مدن أو حواضر عريقة في بلدان شمال أفريقيا أو الشرق الأوسط، ففي هذه البلدان كل شيء مسخ وتم تشويهه أو القضاء عليه، في حين حافظ الإسبان على هذا الإرث وجعلوا منه كنزاً سياحياً لا ينافس.
جاءت لحظة سقوط غرناطة وسقطت ورحل العرب والبربر بمسلميهم ويهودييهم، فرادى وجماعات، واستقروا في كثير من الحواضر والقرى في شمال أفريقيا من طنجة وتطوان مروراً بتلمسان وتنس وقسنطينة وتونس وبرقة والقاهرة وغيرها من المدن، خرج القادة والتجار والمعماريون والشعراء والفلاسفة والمتصوفة والفقهاء، خرج الرجال والنساء والأطفال، غادروا منازلهم وقصورهم ومزارعهم ومكتباتهم وتجارتهم ومصانعهم وعواطفهم وذكرياتهم بالأندلس.
استقروا في أراض لا تختلف كثيراً عن التي غادروها، أو هجروا منها، وشكلوا مجموعات بشرية حيثما نزلوا، لكنهم لم يستطيعوا حمل عبقريتهم معهم، فما السبب يا ترى؟ لم يتمكنوا من نقل ذلك الذكاء الجمعي، ولا شعلة الحياة التي كانت بالأندلس إلى أماكن إقامتهم الجديدة في بلادهم الأصلية، فما السبب يا ترى؟
ما الفرق يا ترى بين الضفة الشمالية للبحر الأبض المتوسط والضفة الجنوبية؟ ماء البحر هو هو، ومنسوب الملح فيه هو هو، والموج في علوه أو انبساطه هو هو؟ فما السبب يا ترى في أن يبدع المسلم حين يكون في الشمال ويخبو أو ينطفئ حين يكون في الجنوب؟
لا فرق بين سماء تغطي غرناطة وأخرى تغطي تلمسان، الزرقة هي هي والغيم هو هو، فما السبب في أن ينجح المسلم حين يكون هناك ويخفق حين يكون هنا؟
لا فرق بين شجرة زيتون تنبت في إشبيلية وأخرى تنبت في بساتين فاس أو تونس، فما السبب في أن يكون للزيتون والعنب والرمان طعم هناك وكثرة وجودة وفي الجنوب يفقد كل بهجة وكل متعة؟
ما الفرق بين سواعد مسلمة بنت ورفعت عماد قصر الحمراء أو مسجد قرطبة الأعظم، وأخرى لم تستطع رفع سقف بيت بسيط يحميها من الريح والمطر والتشرد والخوف في مراكش أو طرابلس أو وهران أو دمشق أو الإسكندرية، فما السبب يا ترى في أن هذا المسلم نجح في إبداع حضارة ها هناك وأخفق حين عاد لبلاده الطبيعية والأصلية؟
إن المسلم حين أبدع في الأندلس كان يعيش مع الآخر، مع المختلف عنه، كان يتعايش مع اليهودي والمسيحي وغير الديني، يتعايش معهم بسلام وفي تنافس وتنافع وتبادل للمصالح الدنيوية من دون التكفير ولا التخوين ولا احتقار الديانات الأخرى.
إن التعددية في كل شيء، في العقائد والثقافات واللغات، هي من يحرر المسلم المعاصر من أوهام التطرف، وحضور الأجنبي بثقافته في الفضاء الإسلامي يجعل المقايسة مسألة مركزية، هذا الحضور ينهي وهماً مركزياً فيها وهو أننا “أفضل أمة”، ويعيدنا لـ”الجد” والمنافسة السليمة والسلمية في الصناعة والعلم والفلاحة والأدب والأخلاق.
يوم تتحقق التعددية الشاملة في البلدان العربية والمغاربية، ويتجول المسلم في شوارع المدن إلى جانب اليهودي والمسيحي والبوذي واللاديني، آنذاك سيعود المسلم في بلده للإبداع في فن العمارة وسيدرك قيمة احترام التراب والأرض والشجرة والحصان والبحر والصديق والجار والمرأة.
إن نوستالجيا “الأندلس الضائعة” التي هي إحساس جمعي ومرضي لا ينتهي إلا بخلق أندلس أخرى في الجزائر وتونس والمغرب وليبيا ومصر والشام واليمن والسودان، حنين استعادة الأندلس هو جرح لا يبرأ منه المسلم إلا إذا أدرك بأن عليه أن يفكر قبل “استعادة الأندلس”، التي هي فكرة استعمارية أساساً، إلى التفكير في استعادة “أرضه” الأصلية الثرية والغنية والواسعة التي يأكلها الكسل والفساد والنهب والخراب، في كل مكان من هذه الأرض من طنجة إلى حلب يمكن أن تنبت مئات “الأندلس”، حين يفهم المسلم قيمة العمل وقيمة الاختلاف وقيمة وضرورة التعايش بسلام.
إن المسلم الذي يفكر في “استعادة الأندلس”، ولا يعلم بأنه، في الوقت نفسه، يخرب أندلسه الحقيقية في بغداد وصنعاء والخرطوم ودمشق وبرقة.
نقلاً عن “اندبندنت عربية”