كريتر نت – متابعات
في تصريح مقتضب، وبعد أقل من 48 ساعة من بدء أشرس جولات العدوان على القطاع، يعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت أنه أمر الجيش بعدم السماح بدخول الوقود أو الغذاء أو الماء إلى غزة، وقال إنه “لن يكون هناك كهرباء قريبا”.
في اليوم الخامس عشر من العدوان الإسرائيلي المتواصل على غزة، دخلت أول قافلة من المساعدات الإنسانية إلى القطاع، بعد أسبوعين من الرفض الإسرائيلي المتواصل لدخول أي نوع من المساعدات، لتعيد هذه القافلة إلى الذاكرة الحكاية الطويلة لغزة مع الحصار والمعونات الدولية.
مطار ومعبر وقرار
منذ الأيام الأولى للعدوان على غزة، أعلنت السلطات المصرية تخصيص مطار العريش في محافظة شمال سيناء لاستقبال المساعدات الدولية الطارئة إلى غزة، ليستقبل المطار حتى تاريخ 24 أكتوبر/تشرين الأول الحالي ما مجموعه 34 طائرة محملة بـ748.4 طنا من المساعدات الطبية والغذائية ومواد الإغاثة العاجلة.
كما وصلت 3 سيارات إسعاف و19 طبيبًا، وفقًا للبيانات الصادرة عن الهلال الأحمر المصري المكلف باستقبال المساعدات الدولية وتخزينها وإدخالها إلى قطاع غزة بالتنسيق مع السلطات المصرية والأمم المتحدة والاحتلال بوساطة أميركية.
واستقبل مطار العريش منذ اليوم الأول للعدوان مساعدات من دول عربية وإسلامية، إضافة إلى دول أجنبية وهيئات دولية منها منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) وبرنامج الغذاء العالمي.
لكن هذه المساعدات بقيت حبيسة المستودعات مع الرفض الإسرائيلي المطلق لدخولها إلى القطاع، وإعلان مصر إغلاق معبر رفح بالجدران الخرسانية، والقصف الإسرائيلي الذي استهدف المعبر ومحيطه.
ولم تجد المساعدات طريقها إلى غزة إلا في اليوم الخامس عشر من العدوان، الذي تزامن مع ارتكاب الاحتلال مجزرة مستشفى المعمداني وما رافقها من ردود دولية ساخطة، والزيارة التي أجراها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى مصر وتفقده الجانب المصري من معبر رفح.
كانت الزيارة لتنسيق محاولات إدخال قوافل المساعدات الدولية إلى القطاع، الذي حذرت الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية من أنه “على شفير الكارثة”، وصلت المساعدات إلى القطاع المحاصر مع تهديد أميركي واضح بتعرضها للخطر إذا “وصلت إلى حركة حماس”.
عبرت أول قوافل المساعدات الدولية من خلال معبر “رفح”، وضمت 20 شاحنة إلى قطاع غزة بتاريخ 21 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، وتوالى دخول القوافل بعدها يوميًا، ووصلت إلى 4 قوافل حتى تاريخ الـ24 من الشهر نفسه، بمجموع 74 شاحنة، بعد خضوعها للتفتيش والفحص في الجانب المصري.
زفة دولية
القافلة الأولى التي دخلت قطاع غزة، كانت تضم 20 شاحنة، منها 3 شاحنات محملة بمياه الشرب، و3 شاحنات محملة بالأغذية، و14 محملة بالمواد الطبية، وهي في مجموعها تشكل ما نسبته 3% من الاحتياج اليومي للقطاع، الذي كان يدخله قبل بدء العدوان 600 شاحنة يوميًا عبر معبر “كرم أبو سالم”.
قوبلت هذه الـ20 شاحنة باحتفاء دولي رسمي، وخطابات انسحبت من المطالبة بوقف العدوان إلى السعي لترسيخ دخول المساعدات كمعيار لقبول مشهد الإبادة الجماعية في غزة.
وأكد منسق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة مارتن غريفيث، في تغريدة على حسابه في منصة “إكس”، أن قافلة المساعدات الأولى التي دخلت إلى غزة “يجب ألا تكون الأخيرة”، معربًا عن ثقته بأن “عملية إيصال المساعدات هذه ستكون بداية جهد مستدام لتوفير الإمدادات الأساسية من غذاء وماء ودواء ووقود إلى سكان غزة بطريقة آمنة وغير مشروطة ودون عوائق”.
ورحبت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين بفتح معبر رفح الحدودي، مضيفة في تغريدة على حسابها في منصة “إكس” أن عبور المساعدات يشكل “خطوة أولى هامة من شأنها التخفيف من معاناة الأبرياء”.
بدوره، قال المستشار الألماني أولاف شولتز إن وصول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة يمثل “خطوة مهمة للسكان الذين يحتاجون الماء والدواء والغذاء. ونحن لا نتخلى عنهم”.
كما رحب المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس غيبريسوس، في تغريدة له بـ”الجهود الأميركية والموافقة الإسرائيلية على السماح بدخول المساعدات الطبية والماء والغذاء”، مضيفا أن “حياة الكثيرين تعتمد عليها”.
نقطة في بحر
دون أي إعلان عن هدنة إنسانية أو وقف مؤقت لإطلاق النار، تدخل قوافل المساعدات المحدودة إلى قطاع غزة، ترافقها فرق من الأمم المتحدة والهلال الأحمر الفلسطيني، ليتم تسليمها إلى الهلال الأحمر الفلسطيني ومنظمات أهلية في نطاق جنوب القطاع.
وبينما أعرب مكتب الإعلام الحكومي التابع لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) في غزة عن ترحيبه بدخول المساعدات، أكد أن هذه المساعدات “لم تصل للجهات المختصة” في وزارة الصحة وبقيت في عهدة وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، التي كانت قد نقلت عملياتها وموظفيها من غزة إلى جنوب القطاع.
وأكدت مصادر في الوكالة الدولية أن الشاحنات ستفرغ حمولتها في مخازن تابعة لها، أو لجمعية الهلال الأحمر ومنظمة الصحة العالمية، في مناطق جنوب القطاع.
وأشار الإعلام الحكومي إلى أن المعدل الحالي لدخول قوافل المساعدات إلى قطاع غزة “لا يغير شيئًا في واقع القطاع المرير لأنها قليلة جدًا”، مطالبًا بفتح ممر إنساني لإدخال المساعدات الطبية والغذائية ونقل الجرحى الذين فاضت بهم المشافي في القطاع، للعلاج في الخارج.
وتقاطع ذلك مع تصريحات المديرة التنفيذية لبرنامج الأغذية العالمي سيندي ماكين، قالت فيها إن هذا العدد “ليس كافيًا لتلبية احتياجات القطاع”.
أين الوقود؟
مع قطع إمدادات الوقود بالكامل عن قطاع غزة، التي كانت تدخل عبر معبر “كرم أبو سالم”، تهاوت احتياطات غزة وقطاعاتها الحيوية، وفي مقدمتها المشافي، من الوقود، مما قاد إلى توقف محطة الكهرباء الرئيسية، واعتماد المستشفيات على المولدات وما تمتلكه من وقود بدأ يتلاشى تدريجيًا.
ومع دخول قوافل المساعدات الأممية المحدودة إلى غزة، بقي الحظر الإسرائيلي على دخول الوقود ساريًا، مما ساهم في تفاقم الأزمة الإنسانية، بتوقف المخابز ومحطات تحلية المياه عن العمل، إلى جانب المشافي.
وفي صباح يوم 24 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية في إيجازها الصباحي خروج 12 مستشفى و32 مركزًا طبيا عن الخدمة بسبب القصف الإسرائيلي ونفاد الوقود، قبل أن تعلن وزارة الصحة في ظهيرة اليوم ذاته انهيار القطاع الصحي بالكامل في القطاع.
هندسة الحصار الجديد
أثارت سياسة إدخال المساعدات الإنسانية بالقطّارة ومن دون الوقود استهجان عدد من المنظمات الدولية والإغاثية العاملة في قطاع غزة، ومنها جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، التي قالت -في بيان نشرته على حسابها في منصة “إكس”- إن هذه المساعدات “نقطة في بحر احتياجات غزة، وغير كافية لمواجهة الكارثة الإنسانية”.
كما أكد غوتيريش، خلال كلمته في “قمة السلام” بالقاهرة، أن “سكان غزة يحتاجون إلى أكثر بكثير، وأنه من الضروري إيصال المساعدات بكميات كبيرة”.
ملامح الطور الجديد من حصار غزة ترسمها السياسة الجديدة لإدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع تحت النار، إذ لا تتقاطع عملية إدخال المساعدات مع أي إعلان عن وقف ولو مؤقت لإطلاق النار، أو هدنات إنسانية كما جرى سابقًا في جولات من العدوان التي شهدها قطاع غزة خصوصا عام 2014.
كما تعد سياسة إدخال كميات مقلصة وأعداد محدودة من شاحنات الإغاثة والمساعدات الأممية إلى غزة شكلًا من أشكال هندسة الحصار الجديد على غزة، واستخدامه سلاحا من أسلحة العدوان المتواصل، وشرعنته عبر الإيحاء بأن “إسرائيل” لا تحاصر القطاع، وتسمح بدخول المساعدات إليه في ظل حرب الإبادة المتواصلة.
ويظهر ذلك جليا من خلال أن هذه المساعدات لا تكفي لتغطية الاحتياجات الفادحة في غزة، كما أنها تسلم حصرا إلى الأونروا، وتقتصر على جنوبي القطاع، وتحرم مناطق شمالي القطاع المهددة بالتهجير والقصف الدموي المتواصل من جيش الاحتلال، وتمنع وزارة الصحة التي تتولى عملية الإشراف على جميع المشافي الكبرى في قطاع غزة من التعامل معها.