طارق العليان
يبدو موقف الصين من الحرب في غزة مثيراً للجدل وغامضاً لكثير من المراقبين.. بعد أن انتقدت القصف الإسرائيلي للمدنيين وأدانت انتهاكات القانون الدولي.
الصين تتبنى قواعد اللعبة الأوكرانية بشأن الحرب بين إسرائيل وفلسطين
وانتظر الرئيس شي جين بينغ إلى ما بعد منتدى الحزام والطريق الثالث للتعليق على الأزمة، إذ أكد موقف الصين الثابت بأنه يجب تنفيذ حل الدولتين والدعوة إلى ممر إنساني للسماح بدخول المساعدات إلى قطاع غزة.
ووصف وزير الخارجية الصيني وانغ يي قصف إسرائيل للمدنيين في غزة بـ “الأعمال التي تجاوزت نطاق الدفاع عن النفس”.. وفي الوقت عينه، لم تُدِن الصين الفظائع التي ارتكبتها حماس ضد المدنيين.
تُصور الصين نفسها، كما فعلت في أزمة أوكرانيا، على أنها قوة عظمى داعية للسلام، وتقول إن لدعمها الدائم لإسرائيل أثراً مزعزعاً للاستقرار في المنطقة.
هل الصين عاجزة عن التأثير في الأحداث؟
وفي هذا الإطار، قال أحمد أبودوح، زميل مشارك في المعهد الملكي للشؤون الخارجية (تشاثام هاوس) في لندن، إن تعليقات الصين على الحرب وموقفها المعارض لفكرة التدخل تعني أنها عاجزة عن التأثير على الأحداث، وهو موقف غير مواتٍ، خاصة إذا كانت مصالحها مهددة بشكل مباشر بسبب الحرب.
وربما كان ذلك هو السبب الذي جعل بكين تصطف على نحو متزايد مع روسيا بشأن القضية الفلسطينية، وهو تطور غير مسبوق.. الهدف منه ضمان مكان على طاولة المفاوضات بأقل تكلفة وتقويض النفوذ الأمريكي.
وأوضح الباحث المتخصص في الشؤون الخارجية والأمن والجغرافيا السياسية للصين في تحليله بموقع الأبحاث البريطاني، أن الصين تتبنى قواعد اللعبة الأوكرانية بشأن الحرب بين إسرائيل وفلسطين، وتسعى إلى رسم مسار مختلف علناً عن الولايات المتحدة وحلفائها.
تحقيق التوازن بين دول الخليج وإيران وإسرائيل
وقال الباحث إن التفاعلات الدبلوماسية للمسؤولين الصينيين مع المنطقة، تلتزم بصرامة بسياسة بكين الخاصة بتحقيق التوازن بين دول الخليج وإيران، وبين القوى الإقليمية الرئيسة وإسرائيل.
والخطاب الذي تتبناه بكين يركز بقوة على السياق الأكبر المتمثل في تنفيذ حل الدولتين، والتصدي للقضايا الإنسانية، ومنع الصراع من التحول إلى حرب إقليمية.
إستراتيجية مدروسة
وامتنعت الصين عن وصف توغل حماس في إسرائيل بالهجوم الإرهابي، لكنها وصفت انتقام إسرائيل بـ “العقاب الجماعي” للمدنيين الفلسطينيين، ما يشير إلى معارضتها للغزو البري الإسرائيلي لغزة.. وهذه إستراتيجية مدروسة من الصين لتحقيق أهدافها في المنطقة وخارجها.
وبحسب الكاتب، لا تطمح الصين إلى الإطاحة بالولايات المتحدة في الشرق الأوسط والحلول محلها، لكن سيسرها بلا شك أن ترى الولايات المتحدة وهي تنجرّ إلى صراع جديد في المنطقة.
ويعتقد الخبراء الصينيون أنه كلما زادت المسارح الإسراتيجية غير الشرق آسيوية التي تقتضي اهتمام واشنطن، صار لدى الصين مزيد من الوقت لتأكيد هيمنتها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
الحياد المعادي للغرب
شددت الصين مجدداً على تقاربها التاريخي مع القضية الفلسطينية وسياستها القائمة على ما يُعرف باسم “الحياد المعادي للغرب” الذي لا يرقى إلى مستوى إدانة أي دولة أو قوة تقوض المركزية الغربية في النظام العالم.
وتستغل الصين أيضاً “الحياد المعادي للغرب” لاستقطاب قاعدة دعم كبيرة وذات أهمية إستراتيجية .. فكثير من دول الجنوب العالمي متعاطف مع فلسطين، ومن ثم فإن الحرب قضية يمكن للصين استغلالها لحشد الدعم لقيادتها للبلدان النامية.
ويساعدها ذلك أيضاً على كسب الدعم للمواقف الصينية المتعلقة بالقضايا الأساسية مثل شينجيانغ وتايوان.
وسعت الصين أيضاً إلى تعزيز الوحدة الإقليمية، وحثّت العالم الإسلامي على “التحدث بصوت واحد” مع الصين بشأن فلسطين، بناءً على مبادرتها للتوسط في اتفاق دبلوماسي بين المملكة العربية السعودية وإيران في مارس (آذار) الماضي.. فقد شجعت الحرب ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي على التحدث عبر الهاتف لأول مرة.
تريد الصين بالتأكيد على موقفها المحايد التحقق من الموقف الأخلاقي للولايات المتحدة، وإضفاء الشرعية على تدويل القضية والدعوة إلى عقد مؤتمر عالمي لبدء عملية السلام، ومن ثم الإطاحة بواشنطن من مكانتها في المنطقة التي دامت عقوداً.. غير أن سياسة الصين معيبة وقاصرة، برأي الباحث.
في حين أخفقت إدارة بايدن في التعاطي مع الحرب الدائرة بطريقة متوازنة، إذ دعمت إسرائيل من دون قيد أو شرط، فقد حشدت القوة الدبلوماسية الأمريكية للتأثير على استجابة إسرائيل، وذلك للحيلولة دون امتداد الصراع خارج نطاق غزة والسماح بوصول المساعدات إلى المدنيين.
والواقع أن استجابة الولايات المتحدة الملتزمة هذه، قد تضع حداً لفكرة أن واشنطن رحلت عن الشرق الأوسط، ما يعزز دورها الإقليمي التقليدي.
وفي الوقت عينه، دفع “الحياد المعادي للغرب” للصين إسرائيل إلى الانتقام دبلوماسياً بالانضمام إلى المملكة المتحدة و50 دولة أخرى في الأمم المتحدة، لإدانة سياسات الصين ضد الإيغور في شينجيانغ.
تُظهر الحرب بين إسرائيل وفلسطين أن “الحياد المعادي للغرب” إجراء غامض ومعقد، فالحياد يمنع الصين من التأثير المباشر على هذه الأحداث الخطيرة بطريقة تخدم مصالحها.
وأشار الباحث إلى أن لدى الصين روابط اقتصادية قوية في المنطقة، فهي أكبر شريك تجاري لغالبية دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ونحو نصف النفط الذي تستورده يأتي من منطقة الخليج.
وهذه المصالح الكبيرة ستوهنها الحروب الإقليمية وحالة عدم الاستقرار في المنطقة، غير أن القادة الصينيين ليس بوسعهم رؤية الأحداث إلا من منظور ضيق الأفق.
وأكد الباحث أنه يتعين على الصين الآن أن تدرك أن تخفيف حدة الاضطرابات بين المنافسين الإقليميين كالسعودية وإيران لا يشكل سلاماً بضرورة الحال.
دروس مستفادة
وذكر الباحث أنه من بين الدروس الرئيسة المُستخلصة من الصراع هو أن وكلاء إيران كانوا على أهبة الاستعداد لإشعال فتيل الحروب في المنطقة لعرقلة التطبيع السعودي مع إسرائيل، ولن تكون مبادرات التكامل التي ترعاها الصين قادرة على الحيلولة دون أحداث مثيلة مستقبلاً.
وأبدت الولايات المتحدة التزامها المستمر تجاه إسرائيل وقدرتها على التأثير على السياسة الإسرائيلية، وحصرت الصين نفسها في الإعراب عن احتجاجها والدعوة إلى السلام.. غير أن عليها أن تدرك في هذه الأيام الحاسمة أن دبلوماسية الكلام الأجوف هي آخر ما تريده شعوب منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حسب الباحث أبودوح.
نقلاً عن موقع “24”